انتخاب الرئيس اللبناني على خشبة مسرح العرائس
يقولون إن القصة بدأت عندما انتهت ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون. لكنهم يخطئون التقدير. الحقيقة أن القصة بدأت قبل ست سنوات عندما تولّى ميشال عون نفسُه تلك الرئاسة؛ على الأقل بالنسبة لصهره جبران باسيل، وربما أيضا بالنسبة لحزب الله، حليفه الوثيق والمتحكّم بالدورات الانتخابية على أشكالها. إذ اعتبر الأول، باسيل، قبل الثاني، حزب الله، أنه بتولّي ميشال عون الرئاسة، يكون بذلك ضمن لنفسه الكرسي الرئاسي من بعده، فعاشَ باسيل على هذا المجد، بل استبقه بأن تحوّل هو إلى الرئيس الفعلي للجمهورية التي يديرها حزب الله. ولكن حصل أن حزب الله غيّر رأيه، أو أنه فعلاً لم يكن بالأصل في وارد تحقيق رغبات جبران باسيل، ولأسباب لم تتّضح بعد، على الأقل للذين لا يعرفون كل الأسرار، فأعلن الحزب أن مرشّحه لرئاسة الجمهورية، هذه المرّة، سيكون سليمان فرنجية؛ ممانع أكثر عراقة من باسيل، وأوثق صلةً ببشّار الأسد.
حارَ باسيل ودارَ؛ صرّح، اتصل، اجتمع، خطب، شحن، غمزَ ولمزَ ... ولم ينفع. بقي الحزب مصّرا على ترشيح فرنجية. وباسيل يشعر بأن كل هذه السنوات من عهد عمّه ضاعت سدى، وبأن رئاسة الجمهورية ليست في جيبه، كما توهَّم وارتاح خلال السنوات الست الماضية. فكانت اتصالاتٌ ومشاوراتٌ، وإجتماعاتٌ وأخذٌ وردّ، مع خصوم الحزب المسيحيين، بأن نتّفق على مرشّح بديل عن فرنجية. وبعد تسريباتٍ، ونفي وتأكيد، و"تداول" أسماء ... كان الإعلان قبل أيام عن اتفاق أكبر الأحزاب المسيحية على مرشّح لرئاسة الجمهورية. وبعدد من النواب المسيحيين، أصحاب الأصوات، تفوق بأشواط العدد الذي يستطيع فرنجية أن يجمعه. وبحقّ طائفي ثابت، يقول إن النواب المسيحيين يرشّحون رئيس الجمهورية، كما يحصل مع النواب الشيعة والسنة في رئاستي البرلمان والحكومة.
المهم أن هذه الأحزاب المسيحية اتفقت مع باسيل على ترشيح شخصٍ آخر، هو جهاد أزعور. طارت عقول مؤيدي سليمان فرنجية من حزب الله وحركة أمل من هذا الترشيح، استشاطوا غضباً. ممثل الحزب، وبعبارات الاحتقار والاستهزاء، وصف هذا الترشيح بـ"الوقح". لم يصدّق أن هناك "من يرفض عَلناً وصول مرشّح الممانعة". الثانية، حركة أمل، قال زعيمها، من دون هَزال، إن هذا الترشيح "حوّل الأزمة الرئاسية إلى أزمة طائفية"، وعبّر عن استيائه الكبير من "اللغة الطائفية التي يستخدمها البعض لمآرب شخصية سياسية". ووسط هذا الصخب، تجمّعت على الجانبين، الممانع وغير الممانع، أوصافٌ للمرشّح، أي مرشّح، بما يضمن للغة العربية بعضاً من الكنوز لآدابها المقبلة. إليكَ لائحة تلك الأوصاف: المرشّح الجدي، الشَبَح، الأساسي، التعطيلي، المشروط، الطبيعي، التخريبي، غير ثابت، غير الرسمي، غير الشرعي ... مرشّح تقطيع الوقت، مرشّح المناورة، التحدّي، السقوط الحتمي، التوافق الصعب، المواجهة ... مرشّح لحرق مرشّح آخر، مرشّح فرنسا، السعودية، إيران، الولايات المتحدة.
يشعر جبران باسيل بأن كل هذه السنوات من عهد عمّه ضاعت سدى، وبأن رئاسة الجمهورية ليست في جيبه، كما توهَّم وارتاح خلال السنوات الست الماضية
والحال أن الاتفاق على مرشّح غير ممانع اتّسم بالقابلية للاهتزاز في أي لحظة. خذْ تسميته مثلا: المتفقون على أزعور لا يصفون شغلهم بالتحالف أو الجبهة، أو الائتلاف. قالوا عنه إنه "تقاطع" وحسب. مبشّرين سلفاً بإمكانية أن يخرج باسيل منه في أي لحظة يشعر بها أن حزب الله ليّن موقفه، أو عاد عن فرنجية، أو أي إشارة أخرى. وأخيرا، أكّدت تخميناتهم الزيارة المفاجئة التي قام بها عمّه ميشال عون إلى بشّار الأسد، طالباً دعمه. ولا معنى آخر لهذه الزيارة. هذا ولا تنسى أن جبران نفسه لم يقنع رجاله بترشيحه أصلاً. إذ يوجد بينهم من يعتقد أنه هو المرشّح الأفضل لرئاسة الجمهورية، الأكثر جدارة منه.
وتسلّل هذا النوع من الانقسام إلى الحكم الفرنسي، وهو واحدٌ من صانعي الرئيس، وإن كان الأضعف من بين شركائه أو خصومه، من تلك الدول المُشار إليها أعلاه، فبعدما جهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمصادقة على ترشيح فرنجية، تراجع عنه تماماً. وخرج الخلاف الفرنسي - الفرنسي إلى العلن. وكانت إشارة هذا الخروج تسليم ملفّ لبنان الى وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لودريان، الأقل انحيازاً إلى حزب الله، بدل باتريك دوريل، وهو على الأرجح صاحب "التسوية العبقرية"، القائمة على ترشيح فرنجية رئيساً للجمهورية بالتلازم مع ترشيح نوّاف سلام (المحسوب على الغرب) رئيساً للوزراء.
حسناً، فلنتجاوز ذلك كله، منعاً لتحويل الانتخابات إلى مناحَة. ولنتجاوز الفراغ الرئاسي منذ ما يقارب السنة. مع أننا لا نرى فرقاً كبيراً في غياب رئيس أو وجوده. ولنتجاوز كذلك الأوصاف، والمماحكات، وردود الفعل، والوقت الضائع، ولعبة انعقاد جلسة برلمانية لانتخاب الرئيس، حيث لم ينل منها اللبنانيون غير 12 جلسة، خالية الوفاض، على قدر روتيني من المناورة المؤدّية إلى عدم الانتخاب ولعبة أخرى، قائمة على "تحليل ميزان القوى الإقليمي والدولي الذي سيؤدّي إلى انتخاب هذا أو ذاك من المرشّحين".
لنسأل، ما هو برنامج، أو لنقل أفكار المرشّحين حول كل المصائب التي تنهال على لبنان: هل نعود ونذكّر بها؟ أو بجديدها؟ ماذا يقول أزعور، أو فرنجية، مثلاً عن جمهورية "عفا الله عما مضى"، عن تحوّل هذه الجمهورية إلى مرتع المتوارين عن العدالة الدولية؟ أو ماذا يتصوّرون من حلول لسرقة أموال الناس والدولة، والاستيلاء على ما تبقّى من مشاعاتها؟ بمن يهتم أزعور؟ ومثله سليمان فرنجية، ورجالاته الفالتون من عدالة انفجار مرفأ بيروت؟
تجمّعت في لبنان على الجانبين، الممانع وغير الممانع، أوصافٌ للمرشّح، أي مرشّح، بما يضمن للغة العربية بعضاً من الكنوز لآدابها المقبلة
الأول أزعور، موظف البنك الدولي، وزير سابق في حكومة فؤاد السينورة، لم نسمع صوته حتى، ولا قرأنا له تصريحاً مفيداً. فقط وصلت إلى الإعلام اتصالاته بالمسؤولين وتطمينه لهم، على ماذا؟ على كراسيهم؟ أيّ نوع من التطمين؟ على ماذا يقوم؟
أما الثاني، فرنجية، فلعْلع صوته بعد ترشيحه "غير الرسمي" من الممانعة. وهو يعلن أمام جمهرة من الناس، وبلهجة الاغتباط، أنه يشكر الزمن الذي يعيش فيه، لأنه سمح له بالتعرّف إلى حسن نصر الله، وبالتصادُق مع بشّار الأسد. ومنذ يومين، اتفق المرشّحان على وصف كل منهما بـ"المرشّح التوافقي".
في زمن الطفولة، كانت ثمّة لعبة نعشقها، اسمها مسرح العرائس. هي شخصيات مصنوعة من القماش، ومربوطة بخيط رفيع جداً، لا نراه، تحرّكه أصابع لأشخاصٍ واقفين بالخلف، لا نراهم أيضاً، يروون القصص، ومعظمها مقالب بريئة. كنّا نضحك كثيراً أمام هذا المسرح. نعلم بالأشخاص المحرِّكين من خلف، ولكن ما أن ندخل في القصة حتى ننغمس في سحرها، ويأخذنا الضحك المتواصل على حركاتها الكاريكاتورية. الآن، في هذه الانتخابات الرئاسية، نحن أيضا أمام مسرح عرائس، شخصيات كاريكاتورية، ولكنها غير مقنعة، غير محبّبة، فالمقالب تحوّلت إلى مكائد لئيمة، وخلافا للخيوط القديمة، في اللعبة الأصلية، الخيوط هنا سميكة، والأيادي المحرّكة لم تعد سرّية، صار لها حضور على خشبة المسرح.
انظر إلى واحدة من تمثيلياتها: على الخشبة نفسها، عندما حاول حزب الله تخويفنا بتخويف إسرائيل، وبأنواع من الاستعراضات المسلحة و"الأهلية"، لعلّنا نتّعظ من قوته العسكرية. ربما صدّقها الإسرائيليون، فخافوا... لكن اللبنانيين، من محبّي الحزب وكارهيه، لم يصدّقوها، لم يخافوا، فوق أنهم لم يضحكوا. مع أن إعلام الحزب كان يؤكّد يومياً على خوف إسرائيل، ينقل كلام مسؤوليها، عن هذا الخوف... عَبثاً ... فكان المقال المطوَّل لـ"مفكّر ممانع"، عنوانه: "لماذا تخاف إسرائيل من حزب الله إلى هذه الدرجة؟"، يحثّ فيه قرّاءه على الخوف من الحزب كما تخاف إسرائيل.