انتخابات تونس في مهب المقاطعة

09 أكتوبر 2022

تونسيات يتظاهرن أمام مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في العاصمة (7/10/2022/Getty)

+ الخط -

بالتوازي مع بلاغ (بيان) الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عن فتح باب الترشحات للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، والمزمع إجراؤها يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب الجديد، أعلنت رسميا، وإلى غاية كتابة هذه الأسطر، قرابة عشرين حزبا مقاطعتها هذه الانتخابات، ومن هذه الأحزاب تلك التقليدية على غرار حركة النهضة ونداء تونس والحزب الجمهوري والحزب الدستوري الحر وآفاق تونس وغيرها، وهي الأحزاب المكونة للمشهد السياسي والمؤثّرة فيه والحاكمة منذ ثورة الكرامة 2011، وتشمل هذه المقاطعة أحزابا أخرى موالية لمسار 25 يوليو/ تموز (2021)، ولكنها تعلن مقاطعتها، ما سينتج واقعا سياسيا مختلفا تماما عن سابقيه، من عناوينه إقصاء كل الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات وازنة. وبذلك سيتم القضاء تماما على تجرية الانتقال الديمقراطي في تونس، التي امتدّت على عشرية كاملة إلى غاية انقلاب 25 يوليو (2021)، مع الإبقاء على صوت واحد فقط داخل مؤسّسات السلطة.

وقد جاءت مبرّرات الأحزاب المقاطعة عديدة ومتنوعة، فمنها من يرفض رفضا كاملا مسار 25 جويليه الذي يعتبره مسارا انقلابيا على الدستور والشرعية، على غرار تحالف أحزاب ما تعرف "بجبهة الخلاص" التي يتزعمها المعارض التاريخي أحمد نجيب الشابي، وقد وجّه، قبل يومين، من خلال مؤتمر صحافي، انتقادات لاذعة لرئيس الجمهورية، "لأنه مرّر مرسوما انتخابيا جديدا ومرسوما يتعلق بمقاومة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال (القانون عدد 54)، المثير للجدل والمتهم بتكميم الأفواه ولجم الحريات". وترى الجبهة أن قانون سعيّد الانتخابي يجب أن يتخذ شكل قانون أساسي، والقانون الأساسي لا يصحّ تعديله إلا بموافقة الأغلبية المطلقة في مجلس نواب الشعب، وهو الشرط الذي ينطبق على القانون 54 المتصل بالحقوق والحريات، والذي لا يجوز إقراره إلا بموافقة نصف أعضاء مجلس النواب زائد واحد، وذلك ما قفز عليه سعيّد بحله البرلمان، ومواصلة تغييبه المؤسّسات الدستورية، وفي مقدّمتها المحكمة الدستورية.

وتبرّر المجموعة الثانية من الأحزاب المقاطعة، وهي التي لم ترفض مسار الاستثناء لقرارات 25 جويلية برمته، ولكنها انتظرت مشروع الدستور الجديد، ثم القانون الانتخابي الصادر يوم 15 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، والذي يبدو أنه جاء مخيبا لآمالها، ولم يرتق إلى طموحاتها المتوقعة. لذلك اتخذت قرارها النهائي بالمقاطعة. وتبرّر بقية الأحزاب، وهي خمسة أعلنت مقاطعتها دفعة واحدة، أن وضع قوانين انتخابية قبل الانتخابات بفترة وجيزة وبأسلوب فردي وفوقي لا يتطابق مع المعايير الدولية والطبيعية للانتخابات، معتبرة أن الدستور الجديد لا يفتح المجال في كل الأحوال لسلطة تشريعية فاعلة وممثلة لكل مكونات الشعب التونسي، فيما تُجمع أحزاب "مشروع تونس" و"آفاق تونس" و"الحزب الدستوري الحر" و"تحيا تونس" و"الحزب الجمهوري" على أن سعيّد أصبح فاقدا للشرعية السياسية والقانونية، بعد إلغاء العمل بدستور 2014 الذي انتخب على أساسه، وكان الأحرى به أن يدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة قبل الانتخابات التشريعية.

ما جاء في قانون سعيّد الانتخابي، يحول دون أي مشاركة جديدة، ولا يمكن أن ينتج مجلس شعبٍ يقوم بما ينتظر منه من أدوار دستورية ورقابية وتشريعية

وفي السياق نفسه، وتناغما مع مجمل مبرّرات هذه الأحزاب المقاطعة، لا تذهب جل مكونات المشهد السياسي التونسي بعيدا عن أجواء المقاطعة وشبحها، فقد أعربت، وما زالت، عن استغرابها من تمسّك قيس سعيّد بقانونه الانتخابي الذي تصفه "بالأحادي واللادستوري"، وعدم استجابته لأصوات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وخبراء القانون الدستوري والحقوقيين ودعواتهم، ناهيك عن هيئات دولية خارجية، كلجنة البندقية والمحكمة الأفريقية والكونغرس الأميركي، التي نادت بضرورة مراجعة هذا القانون، لما تضمّنه من إخلالات ونقائص وجهل بخصوصيات الجغرافية الطبيعية والبشرية للدوائر الانتخابية، وإقصاء معلن ومسبق ومقنن للأحزاب والنساء والشباب، ضربا لحق التناصف في الترشّح، والعمل بمبدأ العدل والمساواة بين الجميع، وخصوصا ما جاء في الفصل الحادي والستين من هذا القانون الذي ألغى حق أصحاب المهن الحرّة من أطباء ومحامين وصناعيين وتجار في الترشّح لمجلس نواب الشعب. ويذهب هؤلاء إلى أن اعتماد التزكيات والاقتراع على الأفراد مجال خصب لانتشار المال السياسي الفاسد والطرق غير المشروعة، ناهيك عن فتح مجال أرحب لإحياء العشائرية والقبلية والوجاهة الاجتماعية المحلية المؤسّسة على الأمية والثروات المشبوهة. ويذهب ملاحظون ومتابعون للشأن التونسي العام إلى أن المناخ السياسي المتأزّم، الذي تغيب فيه ضمانات إجراء انتخابات حرّة وتعدّدية وشفافة، علاوة على ما جاء في قانون سعيّد الانتخابي، يحول دون أي مشاركة جديدة، ولا يمكن أن ينتج مجلس شعبٍ يقوم بما ينتظر منه من أدوار دستورية ورقابية وتشريعية. ويذهب هؤلاء إلى أن كل مكونات مسار 25 يوليو من إجراءات استثنائية واستفتاء وقانون انتخابي وانتخابات تشريعية، جاءت لتكرّس رؤية سعيّد لتنظيم الدولة والمجتمع، القائمة على ما تسمّى الديمقراطية المباشرة، أو ما اصطلح على تسميته النظام القاعدي، فقد اتضحت الصورة بعد كل هذه الإجراءات، وما تضمنه القانون الانتخابي الجديد ومجريات العملية الانتخابية المقبلة أوضحت ما سيكون عليه مجلس النواب المقبل، بعد أن أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قواعد وإيضاحات كشفت عن أن البلاد تتجه إلى انتخاباتٍ على الأفراد، لا إلى انتخابات على الدوائر الفردية. والفرق بين نظامي الاقتراع شاسع، وأن الأحزاب لا يحق لها خوض هذه الانتخابات بشكل مباشر أو القيام بحملات انتخابية، إضافة إلى نشر جذاذة التزكية في نسختين، تتضمن كل منهما تفاصيل عن مشروع المترشح وتعهداته الانتخابية، وتحصرها فقط في التنمية المحلية.

شرع قيس سعيّد في قتل السياسة، وهدم مكونات العملية الديمقراطية، بإقصاء كل الأحزاب من البرلمان الجديد

وقد سلب الدستور الجديد من البرلمان مجمل صلاحياته، وحدّد دورَه عمليا في المصادقة على القوانين المالية والقوانين المقترحة من السلطة التنفيذية، وسيتكون من أفراد مشغولين لتحقيق وعودهم المحلية في محلياتهم، لا بإدارة الحياة العامة والسياسية للبلاد، وبذلك ستزداد السلطة التنفيذية التي يمثلها قيس سعيّد، اليوم وغدا، تغوّلا، لتستولي على كل شيء مهيمنة على الفضاء العام لإدارة البلاد ورسم السياسات. والواقع أن سعيّد والمحيطين به قد كشفوا، بدون خجل، أن الدستور الجديد والقانون الانتخابي والعملية الانتخابية برمتها ستشكّل قاعدةً لنظام الحكم القاعدي، إذ يرى سعيّد أن هذا النظام هو الحل السحري للأزمات التي ما فتئت تغرق فيها البلاد، واعدا التونسيين بالرخاء عن طريق تطبيق النظريات القانونية، وترديد نظرية المؤامرة وترذيل الخونة والمتآمرين الذين يحتكرون قوة الناس، ويحجبون عنهم الزيت والحليب والسكر و...

أخيرا، يمكن الجزم بأن تونس مقبلة على مرحلة هدم اجتماعي وسياسي شاملة، فقد شرع قيس سعيّد في قتل السياسة، وهدم مكونات العملية الديمقراطية، بإقصاء كل الأحزاب من البرلمان الجديد، وذلك في تطلعه إلى ما أسماه مجلس الجهات والأقاليم في غياب تام لكل آليات المراقبة والمحاسبة لرئيس الجمهورية. ولا يستبعد أن يكون المنعرج خلال هذا الخريف الساخن من خلال صحوة شعبية يهبّ بموجبها التونسيون، ليعلنوا رفضهم كل ما يحصل، وما تمضي فيه البلاد عبر متاهات المجهول إلى حافّة الهاوية السحيقة.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي