انتخابات العراق .. إيران الرابح الأكبر
لم يقف العراق، منذ الغزو الأميركي، بعيدا عن جارته اللدود إيران، بل كان، على الدوام، متماهيا مع سياساتها، مذعنا لتوجيهاتها (اقرأ: أوامرها). وكانت من جانبها تطمع بأكثر من ذلك، وتسعى إلى أن يكون العراق تابعا لها، ولم تتردّد في إعلان رغبتها هذه، بل لم تكن تُنكر خططها الشرّيرة تلك، وقد اعتبرت بغداد إحدى عواصمهان كما كشفت متبجّحة أن "الحشد الشعبي" أحد الجيوش التي أنشأتها خارج حدودها الدولية، بهدف حمايتها والدفاع عن مشروعها الامبراطوري. وقد عملت بدأبٍ على استمالة كل رجال الطبقة الحاكمة، ووضعتهم في إمرتها، بمن فيهم من حاول أن ينأى عنها، لكنها استطاعت أن توقعه بشباكها إنْ بالترغيب أو بالترهيب، كما استخدمت الورقة الطائفية، كي تخدع الآلاف من البسطاء والسذّج من العراقيين، وتلحقهم بركابها.
واليوم وقد انقضى ما يقرب من عقدين على الغزو الأميركي للبلاد الذي ترافق مع الهيمنة الإيرانية المباشرة، وإذ يجرّ الأميركيون خيولهم لينسحبوا من أرض العراق، فإن الإيرانيين ينظرون إلى هذه الخطوة أنها نقطة تسجّل لصالحهم، في وقتٍ تشهد فيه انتفاضة/ ثورة تشرين حالة انكفاءٍ، على خلفية عدم تمكّنها من الحفاظ على زخمها الأول، على الرغم من أنها أعطت مئات الضحايا من شهداء وجرحى ومعوقين، وأن هدفها في "استعادة الوطن" استقطب فئاتٍ عريضةً من مواطنيها الذين اكتشفوا فيها ما يعبّد الطريق نحو الخلاص من الاحتلال والهيمنة.
تبلغنا الانتخابات البرلمانية التي جرت الأسبوع الحالي أن ليس في الإمكان التقدّم خطوة واحدة على طريق التغيير الشامل الذي أراده الثوار
وإنه لأمرٌ لافتٌ أن تبلغنا الانتخابات البرلمانية التي جرت الأسبوع الحالي أن ليس في الإمكان التقدّم خطوة واحدة على طريق التغيير الشامل الذي أراده الثوار، وقد آن الأوان للذين راهنوا على قدرتهم على الفعل، وشاركوا في لعبة "صناديق الاقتراع"، أن يدركوا أن "وكلاء" إيران ركبوا الموجة، وحوّلوا مطلب "الانتخابات المبكّرة" الشعبي إلى خطة عمل لإعادة إنتاج "العملية السياسية" التي جاء بها الأميركيون، مع بعض التشذيب الذي تتطلبه المرحلة، وكان أن هندسوا وخطّطوا وتابعوا وأشرفوا على "الطبخة الانتخابية"، كي يضمنوا بقاء سيطرتهم على مواقع السلطة والمال والقرار أربع سنوات أخرى، وقد جنّدوا أتباعهم ومريديهم كي يحكموا الطوق. وهكذا استطاعوا، وفي غياب مشروع وطني فاعل، أن يوصلوا إلى قبة البرلمان الوجوه الكالحة نفسها التي سامت مواطنيهم سوء العذاب، وحرمتهم من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، وباعت سيادة البلاد لقوى خارجية، على حساب استقلال البلاد وحرية أبنائها، وحقّقت "الصناديق" لإيران ما كانت تحلم به، وقد أصبحت "الرابح الأكبر" على حساب العراق والعراقيين.
وهكذا ضاقت النازلة واستحكمت حلقاتها، ولم يأتها الفرج، لا من هذا الطرف ولا من ذاك، ولم تعد لعبة "صناديق الاقتراع" ذات جدوى لحل أزمة النظام، ولتفكيك "العملية السياسية" التي استقوت بحكم الهيمنة الإيرانية على مؤسسات الدولة ومقادير الناس، وتأكّد نفاذ بصيرة "المقاطعين" الذين رأوا أن من المحال حدوث تغييرٍ في ظل المعادلات التي فرضها نظام الاحتلال والهيمنة.
التغيير المطلوب لن يأتي من تلقاء نفسه، وحتى أشكال التغيير التقليدية التي بشّرت بها "الأيديولوجيات"، فإنها لم تعد قابلةً للرهان
هنا يتكرّر طرح السؤال التاريخي البسيط: ما العمل اذن، وهل هناك ما يوحي بأن ضوءا، ولو خافتا، سوف ينبثق في آخر النفق، بما يمكن أن يشيع الأمل بأن التغيير قادم حتما، وإن طال انتظاره؟ ثمّة حقيقة لا تقبل النقاش، أن التغيير المطلوب لن يأتي من تلقاء نفسه، وحتى أشكال التغيير التقليدية التي بشّرت بها "الأيديولوجيات"، فإنها لم تعد قابلةً للرهان، والعمل المسلّح في بلد مثل العراق، وفي ظل أوضاع دائمة السيولة على المستويين، الإقليمي والدولي، لا يمكن أن يكون خيارا عمليا بعدما اختلط بمفهوم "الإرهاب"، وتوغلت امتداداته في حروب الطوائف. ولكن لنا أن نتعلّم من المفكر الباراغواني، إدوارد غاليانو، أن الأرض واعدةٌ دائما بأشكال وصيغ جديدة للتغيير لم نألفها من قبل، ولم تعرفها مخيلتنا قط، حيث "التاريخ يتقدّم مع خطو أقدامنا، لكنه يمشي أحيانا ببطء، وقد لا يأتي التغيير من أعلى، إنما قد يأتي من الأسفل، وسوف يجد طريقه عاجلا أو آجلا، وبالسرعة التي يرتئيها. إنه يولد على خطوات أقدامنا".
هكذا، إذن، يمكن أن يتغيّر العراق بشرط أن نضع خطواتنا بثباتٍ على الأرض، فالسماء لا تمنح بركاتها جزافا، والنازلة التي حلّت بنا واستحكمت حلقاتها، ولم يأتها الفرج، لا تزول بدعائنا فقط، إنما بعملنا أيضا، ولا يساعد الله الذين لا يساعدون أنفسهم.