امرأة استثنائية فلسطينية فوق التصنيفات
في وقت يحتفل فيه العالم بالمرأة وحقوقها، وفي اليوم الدولي للقضاء على العنف المقرّر في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني، والذي تعقبه الأيام الستة عشر العالمية من العمل الناشط، لحظة للتفكّر في الالتزامات المعقودة من أجل القضاء على هذا العنف بحلول عام 2030، وتجديد هذه الالتزامات وزيادة حجمها ووضع استراتيجية لتحقيقها، حيث تتعرّض المرأة في غير بلد عربي، والمرأة الفلسطينية خصوصا، لأشكال العنف من القتل والنزوح والتهجير والاعتقال. وفي السياق، سجل وقوع الآلاف من الضحايا من النساء اللواتي قضين إثر القصف الجوي والبرّي والبحري وحصار المدنيين في غزّة، إلى مئات من الأسيرات والمعتقلات تحت التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فالمرأة الفلسطينية استثنائية فوق التصنيفات، وتمثل دوما العودة إلى فلسطين المحتلة، وتؤشر إلى حصار كامل من القوى الكبرى التي تشارك إسرائيل، وتحاصر الفلسطينيين (غسّان كنفاني). امرأة فلسطينية تأخذ بتلك الأشياء من فلسطين الجميلة، تتحرّك في كل مكان، لا تبدو ضعيفة، تقاوم الغزو الإسرائيلي لأرضها وبيوتها وديارها، لا تلتبس وراء الجدران. هي المقيمة والسجينة في آن، معرّضة مع أطفالها للعنف المُستهدف الممنهج، والقتل والجوع خارج إطار القانون الدولي، خارج أي إطار إنساني لحمايتها مع صور هذا العالم الفاجع في عزلته التامة. ما تشهده غزّة تدهور كبير. القنابل والقتلى والدمار على نحو مروّع. معجم الرعب والخراب، ولم تنأَ إسرائيل بنفسها عن جريمة الإبادة المتمادية.
امرأة فلسطينية على قوّتها تصبح هي الموضوع. كأنها تروي نفسها، وتعرض لحضورها بأجسادها المتنقلة من وجهة إلى أخرى، تستبطن الأرض، نازحة بذلك التمكن الداخلي في مواجهة وقائع الحرب والاستيطان القبليّ. ليست بعيدة عما يجري حولها، بعد أسابيع من اشتعال "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وعلى منصاتها الأمامية، وفي المستشفيات. طالعة من صميم الأرض، ومن واقع المعيش وهمومه، وبمدلولات الصورة والصراخ والكلام والصمت. وقد سلطت الضوء على الوضع الراهن الذي تعيشه النساء في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ودورهنّ في بناء المجتمع الفلسطيني المقاوم، تحت الأرض وفوقها، على تصاعد متفاعل، وأثرها النافذ في القضية الفلسطينية، وضمن المؤسّسات الدوليّة وفي مدن العالم وتظاهراته والمجتمع.
كثر من عُشر المنازل في فلسطين تعيلها نساء. وقد تعلمت الفلسطينيات القتال، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالهنّ الذين يعانون من العنف
تطلع المرأة الفلسطينية علينا في كل الصور. لا نعرف من أين، ولا كيف، ولا متى، آتية ذاهبة، تكتسب قوتها وعنفوانها من المجهول الذي ينتظر قضيتها. تكيّفت عبر الأجيال مع الحرب بسلاسةٍ تدهش العالم، ليس فقط من أجل تجاوز الصعوبات والقهر والاستيطان، ولكن أيضا من أجل تحقيق النماء والازدهار، وفي مواجهة موجات من الحروب والأزمات والضغوط اليومية وصدمات الصراع. طوّرت النساء الفلسطينيات مهارات المواجهة، التأقلم مع الأوضاع المنقذة للحياة، وتعلّمن رعاية وتغذية اسرهنّ في أحلك الظروف على الإطلاق. تعرف كيف تعوض أطفالها وعائلتها بإمكاناتها البسيطة، وبالسيطرة على أدواتها وحضورها، فهي الحياة والموت معا، الولادة والنهاية/ الرحيل والعودة، فتعيش قوة التناقضات تلك.
بحسب دائرة الإحصاء الفلسطينية، أكثر من عُشر المنازل في فلسطين تعيلها نساء. وقد تعلمت الفلسطينيات القتال، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالهنّ الذين يعانون من العنف. وضعت النساء الفلسطينيات التعليم أولوية، وهذه مشكلة إسرائيل مع المرأة الفلسطينية المتعلمة، فنسبة النساء الصغيرات اللائي يرتدن الجامعات أعلى من نسبة الذكور. وقد حافظت المرأة على فن التطريز والأغاني التراثية والأطباق الوطنية. إنهن كاتبات وطبيبات وممرّضات وعضوات في المجلس التشريعي ومدرّسات ووزيرات وسفيرات وفنّانات ومحاميات وناشطات في المجال الإنساني، ومبتكرات حتى في مواجهة الموت وتحويله الى حياة، وغدين فدائيات وبطلات.
تسأل يقين بكر في صحيفة لوس أنجليس تايمز: "هل سيسمع طفلي صوتي أم صوت القنابل أولا"، وهي تروي قصتها في غزّة. هي حامل في شهرها الثامن. كانت على وشك الولادة، وتنتظر مولودة جديدة مع زوجها وابنتها البالغة ثلاث سنوات، ممتلئين بالفرح، وبدأوا بالتخطيط لمستقبل جميل لعائلتهما الصغيرة، والتقطت صورا عائلية وبحماسة لتجربة الأمومة والترحيب بالمولود الجديد. انهار كل شيء فجاة، وتصاعدت الغارات والتهديدات، واضطرّت وعائلتها لإخلاء منزلها المليْ بالذكريات، تاركة الملابس والألعاب والحليّ التي اختارتها لطفلتها الجديدة، وأغلقت خزانة الملابس، وتوجّهت إلى الجنوب على أمل العودة إلى غزّة والأسواق المزدحمة والمقاهي النابضة بالحياة.
تريد المرأة الفلسطينية خدمة العالم وحياة طويلة وسعيدة، خالية من مصائر مجهولة، ومن القصف والإصابات والانفجارات
جاءت إسرائيل وهدمت كل شيء، نسيج الحياة الاجتماعي، زارعة الخوف والرعب والإرهاب والتوتر، وفقدت غزّة كل الإمدادات، وما من شيء متوفر. تسأل يقين عن الجريمة التي يرتكبها الطفل الذي لم يولد بعد، ولا يمكن توفير حتى الضرورات الأساسية له، ناهيك عن ولادة آمنة.
تكافح الفلسطينية للتمسّك بالحياة، للعثور على أماكن آمنة، على قوت الطعام اليومي، على سرير في مستشفيات قصفت وخرجت عن الخدمة، عن كهرباء ومياه واتصالات، عن سيارة إسعاف. بالكاد تعيش، بلا وجهة، ولا هدف، ولا مال، تحاصرها مناخات ضاغطة. الحياة تخضع للتدقيق في غزّة، تشير إلى اختزال العالم بتفاصيله، تعجز الدول عن الضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
هي امرأة ككل النساء. يحقّ لكل نساء العالم الحياة والتمتّع بأبسط الحقوق. "كانت الأيام جميلة في غزّة، أشياء من الصمت، وأشياء من الصوت"، وهي تركّز اهتمامها على العثور على مياه الشرب النظيفة، أو الدقيق/ الخبز، أو الملابس الدافئة لأطفالها، أن تكون لها أحلامها وتطلعاتها، وهي امرأة لها أفكار مثيرة، تريد حضورها لخدمة العالم وحياة طويلة وسعيدة، خالية من مصائر مجهولة، ومن القصف والإصابات والانفجارات.
ليست المرأة الفلسطينية الوحيدة التي تتعرّض لانتهاكات حقوقية، فقد شهد العام الماضي مقتل أكثر من 230 ألفا من المدنيين في أكثر من عشرة بلدان، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال في الشرق الأوسط. هناك ما يقارب خمسين مليون نازح في العالم، 30% من هذا العدد يوجد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تمثل النساء حوالي 50% منهم في سورية واليمن وليبيا والسودان والصومال وفلسطين. يبدو أن الأطراف المتنازعة تجاوزت حماية المدنيين المدرجة في القانون الدولي والإنساني، وبات على مجلس الأمن والمجتمع الدولي اللجوء إلى آليات عمل جديدة، من شأنها حماية النساء والأطفال، وأخذ إجراءات حاسمة في ردع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين عن جنونه وهذياناته ووحشيته، أحد أهم عوامل عدم الاستقرار في العالم.