اليمن بين مطرقة التحالف وسندان الحوثي
ثماني سنوات من الحرب اليمنية بين شرعيةٍ يفترض أنها مدعومة خليجيا، وانقلاب حوثي مدعوم إيرانيا، ولم يصل اليمنيون معها إلى برّ الأمان بعد، ولا تزال حربٌ تلد أخرى كل يوم مخلفة فوضى وفراغا كبيرا لا يخدم سوى بقاء اليمن منطقة حروبٍ لا تنتهي، كهدف لهذه الحرب، التي يٌرادُ لها أن تُبقي اليمن منطقة صراعات دائمة، تستنزف قدرة اليمنيين وإبقائهم رهائن لهذه القوى أو تلك، حتى يتسنّى لها أن تتحكّم بمقدّرات اليمن الغنية بكل المواد الطبيعية، عدا عن موقعه الجيوستراتيجي، الأهم في المنطقة.
كان واضحا، منذ البداية، أن أهداف المتدخلين لا تخدم تطلعات اليمنيين من هذه الحرب، تلك التطلعات التي كانت لدى اليمنيين لإسقاط الإنقلاب المليشياوي الطائفي، المدعوم إيرانيا، واستعادة دولتهم وجمهوريتهم الديمقراطية الموحّدة، فكانت هذه الأهداف الكبيرة لليمنيين واضحةً للجميع، فيما كانت أهداف هذا التحالف الذي تورّط، منذ البداية، بدعم غير مُعلن لهذه المليشيات الطائفية الحوثية بوصفها أداة مهمة لضرب ثورة 11 فبراير (2011) اليمنية، ضمن سياقات ضرب ثورات الربيع العربي ككل.
ما يجري اليوم هو النتيجة الطبيعية لتقاطع الأهداف بين اليمنيين وهذه الأنظمة الخليجية التي نصّبت من نفسها داعما وممولا وقائدة للثورات المضادّة للربيع العربي التي كانت على وشك إحداث إنتقال سياسي ديمقراطي، ينتشل شعوب هذه المنطقة العربية ودولها من وهدة التخلف والفقر، الذي ترزح تحته هذه الشعوب منذ ما بعد الاستقلال.
كان ثمّة اتفاق بين الحوثي والعربية السعودية على دعم هذه المليشيات لضرب الثورة وقواها الرئيسية، ممثلا بحزب التجمع اليمني للإصلاح
ثماني سنوات من حربٍ، أفرغت من أهدافها اليمنية الوطنية، بفعل سياسات التحالف تتكشف اليوم بجلاء عن الهدف المركزي والجوهري منها، وهو الهدف الذي يلتقي عنده الطرفان اليوم، انقلاب مليشيات جماعة الحوثي المدعومة إيرانيا وما يُسمّى التحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية، ذلك الهدف الذي تمثل اليوم بضرب ليس فقط ثورة 11 فبراير، وكل القوى الحاملة لها، وإنما أيضا ضرب اليمن شعبا ودولة وتاريخا من الحضارة والكبرياء، فمنذ اللحظة الأولى دُعمت مليشيات الحوثي، من السعودية والإمارات، وهذا ما كشف بعضَه سابقا، في حديثه لقناة روسيا اليوم، المحلل والأكاديمي السعودي المقرّب من النظام، أنور عشقي، حينما قال حينها إنه كان ثمة اتفاق بين الحوثي والعربية السعودية على دعم هذه المليشيات لضرب الثورة وقواها الرئيسية، ممثلا بحزب التجمع اليمني للإصلاح، وإن الحوثيين استلموا دعما كبيرا من الإمارات والسعودية معا منذ البداية.
ما حدث بعد ذلك أنه حينما رأى الحوثي، ومن ورائه إيران، كيف أُسقطت العاصمة صنعاء، بتلك السهولة، وبدون أي جهد عسكري يذكر، بفعل الخيانات التي حاكتها المخابرات الخليجية مع نظام علي عبدالله صالح وقواته ومواليه، رأت إيران ومليشياتها الحوثية أن الفرصة الذهبية سانحة جدا، للاستمرار في إسقاط كامل الجغرافيا اليمنية. حينها أدرك الخليجيون أن الحوثي، ومن خلفه إيران، ربحوا اللعبة في اليمن، واستغفلوهم، واستخدموهم أدواتٍ لتمرير مشروعهم في اليمن، فما كان منهم، أي المملكة والإمارات، إلا أن سارعوا إلى تشكيل ما سمّي تحالف دعم الشرعية، الذي دخل الحرب في اليمن، بعد صمود أسطوري للمقاومة الشعبية اليمنية التي قادتها نخبٌ تربويةٌ ومدنيةٌ ومشيخية في البداية، ومعظمها كان محسوبا على حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي كان يمثل الهدف الأكبر لهذا الانقلاب لتصفيته والخلاص منه.
تلك كانت البداية، وبينهما سبع سنوات من الحرب التي كان غرضها التحكم بالمعركة، واستنزاف ليس فقط حزب الإصلاح، وإنما معه كل القوى الوطنية اليمنية التي ترى في الحوثي نقيضا موضوعيا للدولة اليمنية. ولهذا لم يسارع التحالف إلى إظهار هذا التوجه مبكّرا، حتى تمكّن فعلا من استنزاف اليمن واليمنيين بهذه الحرب، وإدارة المعركة بتلك الطريقة التي لم تحقّق نصرا، وإنما أبقت المعركة تحت سيطرة التحالف وما تمليه مخطّطاته التي تتكشّف اليوم بوضوح عن مخطّط تفكيك لليمن وتمزيقه ككنتوناتٍ، تمكن إدارتها والتحكّم بها والسيطرة عليها.
تمكّنت المليشيات الطائفية من تحقيق قوة ردع كبيرة في مناطق سيطرتها، فيما تكرّست سياسة دول التحالف إلى إفراغ الشرعية اليمنية من مضمونها
مرّرَ هذا المشروع وطُبخ بنار هادئة على مدى السنوات الماضية، حيث حرص التحالف على عدم تمكين الحكومة اليمنية من العودة إلى الداخل اليمني وإلى العاصمة المؤقتة عدن، بل وعمل مرّتين على إخراجها منها بالسلاح، ومُنعت طائرة الرئيس بالهبوط في مطار عدن، عدا عن عدم السماح بإعادة تشكيل الجيش اليمني، وسارع إلى تشكيل وحدات ومجاميع مقاتلة خارج مؤسّسات الدولة اليمنية الشرعية العسكرية والأمنية، من خلال تجنيد مجاميع سلفية وقبلية تحت مسمّيات عدة من ألوية عمالقة إلى أحزمة أمنية وعصب قبلية وغيرها من المسمّيات التي تتنافى مع فكرة الدولة اليمنية وهويتها الوطنية.
كان هذا كله يتم، للشرعية اليمنية من التحالف، في الوقت الذي تمكّن فيه الحوثي بفعل واحدية القيادة والسيطرة لديه، عدا عن الخبرة الإيرانية الطويلة في إدارة حروب المليشيات، من تزويدها بأحدث الأسلحة المتطوّرة، من العراق وسورية وقبلها لبنان وحاليا اليمن. كان هذا كله يجعل الوضع في اليمن يبدُو أكثر صعوبة وخسارة للشرعية اليمنية، ومن ثم لمشروع الدولة اليمنية، حيث تمكّنت المليشيات الطائفية من تحقيق قوة ردع كبيرة في مناطق سيطرتها، فيما تكرّست سياسة دول التحالف إلى إفراغ الشرعية اليمنية من مضمونها وإبقائها مجرّد لافتة لتمرير مشاريع التحالف في اليمن.
واليوم من العبث الحاصل أن يصحو اليمنيون على مشهد ومسرحية تخلُص الحلفاء الأشقاء والأعداء، في الوقت نفسه، من الشرعية اليمنية وتشكيل مسمّى جديد لها، مجلس القيادة الرئاسي، مظلة لتمرير أهداف غير وطنية كإعادة رسم خريطة النفوذ والسيطرة وتمرير الأهداف غير المعلنة، والمعلنة أخيرا لهذه الحرب التي أٌريد لها أن تظلّ تحت السيطرة، وهو المضي إلى سلام مزعومٍ يبقي الحوثي في مناطق سيطرته، وإيجاد كيان هجين في المناطق التي عُرفت بالمحرّرة، كيان لا علاقة له باليمن الجمهوري الديمقراطي الموحد، التي يعرفه اليمنيون جيدا، وإنما يُحكم باسم شرعية اليمن المعترف بها دوليا، فيما في مضمونه مشاريع كنتونات انفصالية، لا علاقة لها باليمن وهويته الوطنية الموحدة.
يقف التاريخ دائما في صفّ أصحاب القضايا الوطنية الكبيرة، طالما ظلوا أوفياء لمبادئهم وممسكين بخيوط قضاياهم الكبيرة
الكارثة اليوم أن وضعا مخزيا ومشوهاً كهذا يُراد تمريره، يتم في ظل حالة صمتٍ عجيبةٍ وغريبة ومخزيةُ أيضاً، من النخب السياسية اليمنية التي كأنها ابتلعت ألسنتها وصمتت عما يجري من إعادة تشكيل لليمن، وفقا لأهداف ومطامع ومطامح قوى خارجية لصالح المليشيات الطائفية شمالا، والانفصالية والقروية جنوبا وشرقا وغربا، حالة الصمت النخبوي المخزي هذا، تدفعنا إلى الحديث عن خيانة وطنية مكتملة الأركان، تصنعها هذه النخب بالمال السياسي الخليجي، الذي يتم به إسكات الجميع، وإخراسهم.
تدرك هذه القوى الخارجية جيدا أن مشاريع تفتيتية كهذه لا يمكن تمريرها إلا بتواطؤ أبناء البلد أنفسهم، ولذا تسعى هذه القوى المتدخلة اليوم في المشهد اليمني، بما تمتلكه من مالٍ وإمكانات وإعلام، لإيجاد رأي عام مائع من خلال من تم شراؤهم من كتّاب وإعلاميين وسياسيين ومثقفين، تم تدجينهم بالمال السياسي، وتحت لافتات وطنية وقومية وهلم جرا من المسمّيات العتيقة والحديثة، والتي تتكشف اليوم عن دورها الخياني والرخيص لصالح مشروع تقسيم اليمن وتفتيته.
شيطنة القوى الوطنية اليوم التي تقف سدّا منيعا أمام هذا المشروع، وترفع صوتها بلا مشاريع التقسيم والتفتيت، هي شهادة على وطنية هذه الأحزاب والقوى والشخصيات، ولا يجب أن يستسلم الناس لرياح الشيطنة هذه، لتمرير مشاريع التمزيق والتفكيك التي تقوم بها هذه الجهات، وأن التاريخ يقف دائما في صفّ أصحاب القضايا الوطنية الكبيرة، طالما ظلوا أوفياء لمبادئهم وممسكين بخيوط قضاياهم الكبيرة، وعدم التفريط بها في زحمة الترهيب والترغيب الذي يطلقه الأغراب وأدواتهم الرخيصة لسلب أبناء الوطن الشرفاء كرامتهم وتشويه عدالة قضيتهم، المتمثلة بقيام يمن جمهوري ديمقراطي موحد.