اليسار التونسي ونزعاته الانقسامية
الانقسامية، إضافة إلى أنها مستشرية في المجتمعات التقليدية ذات الطابع القبلي، هي نظرية وضع أسسها الأولى عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي إيفان بريتشارد في دراسته عن قبائل النوير في جنوب السودان، واستخدمها بحرفية إرنست غلنر في كتابه "صلحاء الأطلس" الذي درس فيه البنى العتيقة المغربية وفكّك آليات اشتغالها. ترى هذه النظرية أن النظام القبلي في العموم نسق المعارضات المتوازنة، ما لا يسمح بوجود سلطةٍ مركزيةٍ في قبيلة معينة أو بين مجموعة من القبائل، فهذه الجماعات القبلية تنزع إلى التعارض والصدام باستمرار، إلا أنها يمكن أن تنزاح بيُسر من أوج صراع على الأرض والمجال تلطّخه بُقع الدم إلى تحالف أعمى فيما بينها تسنُده روابط الدم كلما هدّدها خطر خارجي.
قراءة الحقل السياسي في تونس، وفق آليات النموذج الانقسامي، قد تكون الأنسب لتفسير نزعة الانقسام المتواصل، والميل نحو التشظّي وإدامة الصراع بين مكونات اليسار التونسي، في وقت أبدت فيه النظرية الماركسية عجزا عن فهم الانقسامات اليسارية المزمنة وتبريرها عقلانيا. وهو ما يتناقض مع ما راكمه اليسار التونسي، باختلافاته الراديكالية، من مدوّنة فكرية وتاريخية وتجارب عملية وأعمال نظرية، لا يقبل أصحابُها الشكّ في مدى علميتها، هي الأضخم، مقارنة بالإنتاج النظري والفكري للتيارات والمشارب السياسية التونسية الأخرى. ويحول هذا التناقض دون تحقيق حلم مكوّنات اليسار في الاشتراكية قبل بلوغ مرحلة الشيوعية التي سينتفي فيها الاستغلال وتزول الطبقية، وهو هدفٌ لا يمكن أن يرى النور إلا بواسطة نضال الطبقة العاملة بقيادة تنظيم واحد، هو الحزب الشيوعي، وفق المسلّمات الأولية التي بشّر بها كارل ماركس وجليسه فريديريك إنجلز.
من الإجحاف القول إن النزعة الانقسامية خاصية ميّزت اليسار الماركسي التونسي دون سواه، فقد اكتوت بالانقسام والصراع كل مكونات المجتمع السياسي في تونس، فشملت العدوى الأحزاب القومية العربية، وكان جديدها أخيرا انفصال حزب التيار الشعبي عن حركة الشعب سنة 2013 ودخول الإخوة الأعداء في حربٍ باردة طويلة النفس، رغم المرجعية الناصرية لكلا الحزبين وانحدارهما المشترك من تجربة الطلبة العرب التقدّميين الوحدويين 1974- 1992 ووريثتها تجربة طلبة قوميين، وتماهي مواقفهما السياسية. ومسّ ضرّ الانقسامات التيار الإسلامي واسع الانتشار وشديد الصراعات إلى حدّ التكفير بين المجموعات المقاتلة الجهادية التكفيرية (القاعدة وأنصار الشريعة وداعش) ومن يسمّون أنفسهم "الإسلاميين الديمقراطيين"، وفيما بينهم، وكانت آخر نتائج ذلك الصراع انفصال مجموعة من قيادات حركة النهضة عن حركتهم الأمّ وأسسوا حزب العمل والإنجاز. والوضع نفسه يعيشه التيار الدستوري، فقد عاش هذا التيار على وقع التوالد الحزبي والانقسامات المتتالية، بعد حلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي بقرار قضائي سنة 2011، ليؤدّي هذا الواقع إلى نشأة أحزاب نداء تونس وحزب الوطن ومشروع تونس وتحيا تونس وقلب تونس وصوت الجمهورية والحزب الدستوري الحر، رغم ما يدّعيه الأخير من امتلاك الرأسمال التاريخي للدستوريين وأنه ممثلهم الشرعي والوحيد.
يُعدّ اليسار التونسي من أقدم القوى السياسية في البلاد، صحبة الحزب الحرّ الدستوري
يُعدّ اليسار التونسي من أقدم القوى السياسية في البلاد، صحبة الحزب الحرّ الدستوري الذي أسّسه الزعيم عبد العزيز الثعالبي ومجموعة من رفاقه من حركة الشباب التونسي سنة 1920. وفي وقت شكّل فيه الحزب النواة الأولى للحركة الوطنية التونسية التي ستقود المقاومة وتعمل على دحر الاستعمار 36 سنة أو يزيد، شاءت الأقدار أن يولد اليسار في السنة نفسها في شكل فرع للحزب الشيوعي الفرنسي، انخرط فيه فرنسيون وتونسيون مسلمون ويهود، ولكنه بقي موصوما بسبب انتمائه إلى الدولة الاستعمارية، ودعوته المستمرّة إلى قيام اتحادٍ يجمع فرنسا بمستعمراتها، ولم يضع الاستقلال في أولوياته حتى بعد تونسة الحزب في مؤتمره المنعقد سنة 1939 وتغيير اسمه إلى الحزب الشيوعي بالقطر التونسي. واستطاع الحزب الشيوعي التونسي أن يبقى موحّدا إلى حين الرئيس الحبيب بورقيبة حلّ الأحزاب ومنعها من النشاط سنة 1963 على خلفية محاولة انقلابية قادها مجموعة من الضباط العروبيين اليوسفيين (نسبة إلى الزعيم صالح بن يوسف) سنة 1962. وظلّ على وحدته بعد السماح بعودة بعض الأحزاب سنة 1981 ومشاركتها في انتخابات صورية انتظمت في السنة نفسها. ورغم تقديم الحزب أحمد إبراهيم مرشّحا للانتخابات الرئاسية سنة 2009 في تحدٍّ واضح وإحراج لسلطة الرئيس زين العابدين بن علي، بعد تغيير اسم الحزب إلى حركة التجديد سنة 1993، الأمر الذي لقي مساندة بعض فصائل اليسار، ومشاركته في حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية التي أسقطها اعتصام القصبة 2 الثوري، ودخول المجلس الوطني التأسيسي نهاية 2011 بخمسة نواب، وتغيير الاسم مرّة أخرى سنة 2012 ليصبح حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، فقد بقيت حلقات الحزب الشيوعي التونسي متواصلة مائة عام من دون انقطاع، إلا من محاولة انفصال يتيمة قادتها سنة 2019 مجموعة تسمّي نفسها "مساريون" لتصحيح المسار، ولم تفض إلى السيطرة على الحزب أو تكوين تنظيم حزبي جديد.
رحلة طويلة من التيه والتشتت سيعيش على إيقاعاتها اليسار التونسي بولادة فصيلٍ يساري تونسي، تأسّس سنة 1963 في باريس أطلق على نفسه اسم تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي، ويسمّى اختصارا "آفاق". كانت مكوّنات هذه المنظّمة التي عرفت انتشارا سريعا في الأوساط الطلابية والنقابية، وأفرزت فيما بعد عدّة كوادر في مجال حقوق الإنسان وحتى في المناصب الحكومية إبّان حكم بن علي 1987-2011، كانت مزيجا من المجموعات الماركسية اللينينية والستالينية والتروتسكية والماوية، ونظيرتها القومية العربية البعثية والناصرية، غلبت على توجّهاتها المواقف القومية العربية وتبنّي الاشتراكية والدفاع عن القضية الفلسطينية. ولكن هزيمة 1967 غيّرت من جوهر المنظّمة وتوجّهاتها الفكرية والأيديولوجية جذريا، فتحوّلت إلى تنظيم ماركسي لينيني صرف قُطري تونسي يؤمن بوجود أمة تونسية، بالطريقة نفسها وللأسباب نفسها التي بدّلت حال حركة القوميين العرب لتصبح الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين. عرفت منظّمة آفاق تجربة السجون والمعتقلات، ومن معاناة مناضليها نشأ تنظيم العامل التونسي مطلع عشرية سبعينيات القرن الماضي، وانبثق هذا التنظيم عنه فيما بعد حزب العمال الشيوعي التونسي سنة 1985، والتجمّع الماركسي اللينيني، وحزب الشعب الثوري ومنظمة الحقيقة والمنظمة الماركسية اللينينية المعروفة بالشعلة، ومن رحم هذه المنظمّة التي ظهرت في 1974 سيولد التيار الوطني الديمقراطي بفروعه المتعددّة بتعدّد كلّيات الجامعة التونسية، قبل أن ينجح شكري بلعيد المحامي والقيادي الطلابي سابقا في لمّ شمل أغلب تلك المجموعات في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي عقد مؤتمره التأسيسي سنة 2012، وكان عماد تأسيس الجبهة الشعبية بمعية حزب العمال بقيادة حمّة الهمامي.
تكاد مكوّنات اليسار التونسي تستعصي على العد، لكثرة التنظيمات والأحزاب والمجموعات والمنظّمات والجمعيات اليسارية
تكاد مكوّنات اليسار التونسي تستعصي على العد، لكثرة التنظيمات والأحزاب والمجموعات والمنظّمات والجمعيات اليسارية، العلنية منها والسريّة القانونية وغير القانونية، المدوّنة في سجلّاته التاريخية المكتوبة وشهاداته المسجّلة في فيديوهاته المشاهدة وأسطواناته المروية. تحفظ تلك السجلّات عناوين حزبية عمل أصحابها على أن يكون لهم حضور دائم في الساحة السياسية التونسية، بقطع النظر عن نجاعة فعلهم السياسي والمجتمعي، من أبرزها حزب العمال الشيوعي والحزب الاشتراكي اليساري المتفرّع عنه وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد وحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وريث الحزب الشيوعي التونسي والحزب الجمهوري وريث الحزب الديمقراطي التقدّمي الذي ورث بدوره التجمّع الاشتراكي التقدّمي وحزب رابطة اليسار العمالي ممثل التيار التروتسكي وحركة النضال الوطني القريبة من فكرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة وحزب القطب الحداثي القريب من حزب المسار وحزب تونس إلى الأمام وهو حزبٌ وطني ديمقراطي. توجد قائمة أخرى في تكوينات يسارية تتزيّن بها دفاتر الأحزاب السياسة التونسية منها الحاصل على تأشيرة العمل القانوني، ومنها المحافظ على سرّيته، لكنها محدودة أو منعدمة الفعل والأثر السياسي مثل حزب النضال التقدمي والحزب الشعبي للحرية والتقدّم وحزب المستقبل من أجل التنمية والديمقراطية وحزب الوطد الثوري الماركسي اللينيني وحزب الجبهة الوطنية التونسية والحزب الوطني الاشتراكي الثوري وحزب الائتلاف الوطني والحزب الاجتماعي التحرّري ومشروع تقدّم وحراك درع الوطن وحركة تونس المستقبل.
اختار الفريق الثالث من اليسار التونسي النشاط ضمن أحزاب ديمقراطية اجتماعية، مثل التيار الديمقراطي وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيات، أما الفريق الرابع فقد اجتبى لنفسه مكانا داخل مجموعات التفسير وتنسيقيات الرئيس قيّس سعيد، ولعب أدوارا في حملته الانتخابية، وتولى مناصب في فريق حكمه (الوزراء والولاة والمعتمدون والمناصب السامية في الدولة) والولوج إلى مجلس النواب على قاعدة مناصرة "25 جويلية" (يوليو/ تموز 2021)، وعدم التخلّف عن القيام بما يتطلّبه مشروع الرئيس من دعاية إعلامية وتولي وظيفة الجهاز الأيديولوجي لذلك المشروع. وقد لعبت مجموعة "قوى تونس الحرّة"، وهي تنظيم ماركسي لينيني شبه سرّي ينتمي إلى التيار الوطني الديمقراطي، الدور الأبرز في الإسناد اليساري للرئيس سعيّد من داخل ما يسمّى "أبناء المشروع"، وعيّن بعضهم في مناصب حسّاسة، مثل منصب وزير الداخلية. هذا من دون نسيان الحضور الواسع والمؤثر لتيارات اليسار التونسي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل ومختلف نقاباته والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والهيئة الوطنية للمحامين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية القضاة التونسيين وجمعيات المجتمع المدني على غرار ائتلاف صمود وجمعية المحامين الشبان وجمعية النساء الديمقراطيات والجمعية التونسية لمساندة الأقليات واتحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل والمرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام والمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب.
كأن فصائل اليسار التونسي كانت تلتزم بأحد أهم مبادئ النظرية الانقسامية "تجزّأ كي لا تحكم"
تُستخدم الكرّاسات الفكرية والتنظيمية والبيانات السياسية للتنظيمات والأحزاب اليسارية الماركسية التونسية، إبّان مرحلة نشأتها الطلابية وحتى بعد تنظّم بعضها حزبيا ومدنيا، معجميةً لا تخلو من تخوين وتشكيك في يسارية بعضها بعضا وماركسيتها اللينينية والماوية ومدى اشتراكيتها وشيوعيتها على وجه الخصوص، وتنعتها بالانتهازية والخيانة والتحريفية والإصلاحية اللاثورية والبورجوازية والرجعية والعمالة والبوليسية (الوشاية لأجهزة الأمن) والدسترة (الانتماء سرّا للحزب الدستوري الحاكم)، وهي صفاتٌ عكست حجم العداء وكيْل التهم من الفصائل اليسارية، حتى تحوّل الصراع فيما بينها إلى صراعٍ رئيسي، بلغ درجة كسر العظم، بينما وضعت اختلافاتها وصراعاتها مع خصومها الأيديولوجيين من خارج تيارات اليسار الماركسي في خانة الصراعات الثانوية. وكانت تلك الصراعات مصدر تكاثرها وتشتّتها وتزايد مناكفاتها وهرطقاتها النظرية والأيديولوجية إلى درجة فقدان الحدّ الأدنى من التجانس والوحدة في الموقف السياسي والبناء التنظيمي لما يمكن أن يشكّل أرضية دنيا للاتحاد الذي يصنع القوّة والغلبة السياسية، فكأن فصائل اليسار التونسي كانت تلتزم بأحد أهم مبادئ النظرية الانقسامية "تجزّأ كي لا تحكم" في انتظار الخطر الخارجي الذي يدفعها عنوة إلى الوحدة للحفاظ على وجودها وبناء القوّة وتحقيق الانتصار.
استشعرت قسمات اليسار التونسي وفصائله ومجموعاته الخطر الخارجي الإسلامو - سياسي بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي نهاية سنة 2011، وهي انتخاباتٌ فازت فيها حركة النهضة وحليفاها حزبا التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية بأغلبية الأصوات، وتولّي تشكيل الحكومة ورئاسة الدولة والمجلس التشريعي، فاستحال التشتّت والتشرذم اليساري نوعا من الاتحاد ستكون الجبهة الشعبية التي تأسّست سنة 2012 من 12 حزبا مرجعية أغلبها ماركسية وبعضها قومي عربي، عنوانه الرئيسي. لعب رئيس حزب الوطنيين الموحّد شكري بلعيد دورا مركزيا في تأسيس الجبهة الشعبية، هدفه من ذلك إصلاح ذات البيْن بين مجموعاتٍ دأبت على العراك فيما بينها نتيجة الزعماتية المفرطة والشخصنة والتقدير الذاتي لقضايا السياسة وإكراهاتها، وكان دورُه شبيها بما يقوم به الوسيط الديني في حلّ النزعات القبلية، كما وصفه غلنر في كتابه "صلحاء الأطلس". ولم يحل ذلك الدور دون تنازل بلعيد عن زعامة الجبهة لرفيقه حمّة الهمامي لتأمين النجاح للتنظيم الجبهوي اليساري الجديد وحمايته من النكوص والعودة إلى الانقسام والتشظّي، رغم أحقيته الزعامية وقدرته على تقريب وجهات النظر، ولكنه دفع ثمن ذلك الدور حياته فاغتيل على يد أنصار الشريعة المصنّف تنظيما إرهابيا يوم 6 فبراير/ شباط 2013، وطاول الاغتيال أيضا قياديا ثانيا في الجبهة الشعبية هو أمين عام التيار الشعبي، محمد البراهمي، يوم 25 يوليو/ تموز 2013.
لم تستطع الجبهة الشعبية أن تصمد في معارك السياسة التونسية، وتحافظ على ما حققته من انتصارات انتخابية
زادت تلك الاغتيالات الجبهة الشعبية تماسكا وتعبئة ووسّعت من دائرة فعل مكوّناتها فتحوّلت إلى قوّة سياسية تمكّنت من الفوز بـ 15 مقعدا في أول انتخابات برلمانية عرفتها تونس بعد الثورة سنة 2014، الأمر الذي وفّر لها فرصة تولي رئاسة لجنة المالية التي أمّنها دستور 27 يناير/ كانون الثاني 2014 للمعارضة، وقد استطاع زعيمها حمّة الهمامي أن يتبوّأ المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 بعد كل من الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي بـ 255529 صوتا بنسبة 7.82% من أصوات الناخبين، وهذه المكانة السياسية المتميّزة لم يبلغها اليسار التونسي منذ نشأته الأولى سنة 1920.
لم تستطع الجبهة الشعبية أن تصمد في معارك السياسة التونسية، وتحافظ على ما حققته من انتصارات انتخابية، وأن تراكم تجاربها السياسية فتزداد قوّة وتأثيرا، وغلب على مكوّناتها الحنين إلى الأزمنة القديمة التي عرف فيها اليسار التونسي درجةً من التشظّي حتى صار بإمكان الفرد أن يعلن نفسه تنظيما أو حزبا ماركسيا لينينيا. وقد أدّى ذلك التمشّي إلى هزيمة ساحقة تكبّدتها مكوّنات اليسار في الانتخابات التشريعية لسنة 2019، لتفوز هذه المكوّنات بمقعد يتيم بمجلس نواب الشعب بالاعتماد على نظام أفضل البقايا الانتخابي، كان من نصيب النائب المنجي الرحوي. أما في الانتخابات الرئاسية التي جرت بالتوازي مع الانتخابات التشريعية فقد احتلّ المرشحون اليساريون أسفل الدرجات في الترتيب، فكان نصيب المنجي الرحوي 0.81% من أصوات الناخبين يليه حمة الهمامي بـ 0.69% وعبيد البريكي بـ 0.17%.
وفي ظلّ هذا التشتت المزمن المنتج لمزيد من إخفاقات اليسار التونسي، انعقد بالتوازي، مؤتمران لأحد أهم الأحزاب اليسارية هو حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، وذلك في نهاية أبريل/ نيسان المنقضي وبداية مايو/ أيار الجاري. ينتسب المؤتمر الأول إلى أمين عام الحزب، زياد الأخضر، وينعقد الثاني تحت إشراف المنجي الرحوي، وكلّ يدّعي أن مؤتمره هو الثاني للحزب ويجعل من نفسه أمينا عاما. غابت عن كلا المؤتمرين الأوراق الجدّية واللوائح المرجعية العاكسة لصراع موضوعي قد يتعالى عن تضخّم الذوات ونرجسية الأنا من الطرفين الأول والثاني. وحضرت الآثار السياسية لحدث 25 يوليو (2021) فجعلت من الحزب الموحّد حزبين متنافسين متصارعين على تسمية الحزب وشعارِه وتاريخه ورمزيته، وربما يشمل الصراع غدا المقار والحساب البنكي. وهي ضربةٌ موجعةٌ تلقاها الحزب المنسوب إلى شكري بلعيد الذي يدّعي كلّ طرف أنه امتداد له وحافظ أمانته ومنبع شرعيته، لم تُضعف الحزب الموحّد فقط بعد أن نفت عنه صفة الوحدة، وإنما أضعفت اليسار والمجتمع السياسي التونسي ككل، ففي وجود يسار قوي موحّد ديمقراطي ضمانة لحياة سياسية تعدّدية تقوم على إعادة الاعتبار للأحزاب السياسية المستهدفة بالإقصاء والتهميش وحتى الحلّ من سلطة 25 جويلية، وإحداث التوازن بين مختلف العائلات السياسية التونسية اليسارية والإسلامية والقومية العربية والليبرالية والدستورية، والاتفاق على ميثاق سياسي قوامه التنافس النزيه فيما بينها وتعزيز التداول السلمي على السلطة، تداول منهار بصورة لافتة منذ أكثر من سنتين.