الوعي والتفاهة في فتنة وسائل التواصل في الجزائر
من المستحيل تصوُّر مدى الاهتمام الذي يوليه الجزائريون، على غرار العرب وكلّ الناس، عبر العالم، للتواصل من خلال الوسائط التكنولوجية، حيث أضحت تحتلُّ حيّزا معتبرا من الوقت والجهد لمتابعة المحتويات التي تعرض الصالح والطالح من القيم والرسائل، الواضحة والمضمرة، إلى درجة إثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، سواء في بثّ سموم الفرقة من خلال الإعلاء من الهويّات الفرعية وجعلها الحاكمة على الهويّات الجامعة.
بلغ عدد المشتركين في تلك الوسائط، بكلّ أنواعها، الملايين، كما أن الاستخدام تطور وتعدّد من مجرد الاطلاع على مضامين ما يُذاع فيها الى محاولة المشاركة فيما باتت تُعرف بصناعة المحتوى، كما برزت مفاهيم تُعلي من شأن بعضهم وتحطّ من شان آخرين من خلال معياري المشاهدة وعدد المتابعين التي أوصلت بعضا الى مصافّ المؤثّرين، أي الصانعين للرأي العام، بزعم تلك المفاهيم ومعانيها التي استقرّت في الأفهام لدى الناس، عبر العالم، وليس في الجزائر أو في الجوار المغاربي، فقط.
إذا نظرنا في المحتوى، شكلا ومضمونا، سنصل إلى نتيجة مفادها خطر ما يتمُّ بثُّه ومستوى من انبرى لصناعة التأثير، ذلك أنّ البعض بات ينشر التفرقة، السُّموم، الأفكار البعيدة عن تقاليدنا وأعرافنا وكل ما هو منحطّ من آراء وانطباعات ويعود ذلك، باعتبار الملاحظات الأوّلية وتحليلات المتخصّصين في دراسة تلك الوسائط، إلى أكثر من سببٍ، لعلّ أكثرها حضورا اعتقاد كثيرين ممّن ينبرون لصنع المحتوى الافتراضي، إذا سمّينا ذلك محتوى بمعايير المحتوى الافتراضي المعمول بها، عبر العالم، أنّ تلك وسيلة لكسب المال والشُّهرة، معا، وقد وصل بعضهم إلى ذلك، ولكن على حساب ما تمّ ذكره.
هناك من بات ينشر التفرقة، السُّموم، الأفكار البعيدة عن تقاليدنا وأعرافنا وكل ما هو منحطّ من آراء وانطباعات
من ناحية الضوابط القانونية، ما زال التشريع الجزائري يُراوح مكانه، ويحاول اللحاق لاحتواء الوضع، حيث هناك تشريعات لكنّها لم تضبط، بعد، العالم الافتراضي وما يبثُّ فيه، كما يجب، ما فتح الباب، على مصراعيه، لتلك التجاوزات، خصوصا من الجانب الأخلاقي، لأنّ ما بات يُعرض على الناس، في وسائل التواصل الاجتماعي، أضحى مبتـذلا. وأصبح المساس بقيم المجتمع من دون حسيب ولا رقيب من رادع ديني، أخلاقي وقانوني، لنرى تلك الدرجة المرتفعة من التفاهة قد تكون صورتها الأكثر تمثيلا لها تلك الجموع التي ذهبت لاستقبال احدى المبتذلات في مطار الجزائر، في حين أنّ علماء البلاد المشرّفين اسمها، في الخارج، الأستاذان حبّة وملكيشي (لكليهما قرابة 2.500 براءة اختراع في ميادين دقيقة جدا على غرار الفضاء والذكاء الاصطناعي)، يأتون ويسافرون، من دون أن ينتبه إليهم أحد، ومن دون أن ترتقي ظروف استقبالهم لتلك التفاهات ممّن يحملون أسماء المؤثّرين.
وصل الابتذال في مستوى المحتوى المعروض في تلك الوسائل إلى درجةٍ أضحى معها وجوب التصدّي والردّ مؤكّدا، بل أرفع مقاما، وينطلق، في سياق منتظم، من انتقاد الوضع، التدقيق حالة بحالة في ما يُعرض، ثمّ تنقية الفضاء الافتراضي من كلّ ما يمكن تصنيفه تجاوزا مع ترتيب طبيعة تلك التجاوزات من تلك التي تمسُّ الدين، الهويّات الجامعة والفرعية، السرديات التاريخية المُتّفق عليها، المرجعيّات الثقافية واللُّغوية للبلاد، إضافة إلى المعرفة وكلّ ما يمكن اعتباره تعدّيا على الأخلاق والأفراد، عمُوما.
لم يكن المضمون المتردّي لينتشر، لو لم يجد له مريدون من أبناء المجتمع، مغيّبو الوعي الذين يسمعون الخطاب، ويشاهدون المحتوى، بل وينشرون الابتذال
بدأ ذلك التصدّي، وإن بمقاربة شديدة، من حيث اللُّغة المستخدمة ونبرة الإلقاء، ومن الوسط نفسه، يعني من صانع للمحتوى ارتكب، هو نفسُه، تجاوزات، لكنّه، هذه المرّة، انبرى لرفع تحدّي إطلاق حملة تصدّ وردّ على التفاهة، ومن يُدعون إليها أو يحملون مشعلها، بخاصّة أنّ هؤلاء لا ينفكّ الواحد منهم، كسبا للمشاهدات والشُّهرة، على ارتكاب تجاوزاتٍ تمسُّ كلّ ما سبق الإشارة إليه. وعلى الرغم من ردّ بعض من وجوه الثقافة والمعرفة عليهم، إلا أنّهم لا يرتدعون، ما يوجب عملا جماعيا لاسترداد الوعي ومحاربة التفاهة، أيّا كان مضمونها أو شكلها.
طبعا، لم يمر فيديو "أنس تينا"، صانع المحتوى، ضدّ تلك التفاهات، من دون أن يكون له وقع داخل المجتمع الجزائري، حيث أغضب عينة المؤثرين، وأشعل فيهم غضب من كان يظنُّ نفسه فوق الانتقاد من هوس اعتبار التافهين لهم مؤثّرين، ومن هوس تصديقهم أنّهم أصبحوا وجوها مؤثّرة في العقل الجزائري بتلك التفاهات، بل وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار أنّ الانتقاد إنّما جاء بسبب الغيرة من نجاح المؤثّرين على مستوى تلك التُّرّهات (المشتركين في تفاهاتهم والمشاهدات التي يصلون إلى تحقيقها)، وذلك كلُّه من الهوس الذي لوّث ما بقي لهم من عقل، حيث أصبحوا يصدّقون أنهم نُخبة المجتمع أو دكاترة في بعض المجالات التي أضحوا أصحاب باع طويل فيها، على غرار التي استضافتها قناة تلفزيونية خاصّة، لتصرّح أنّها "دكتورة في الحياة"، بكلّ ما يحمله ذلك من معنىً مبتذل لأعراف المجتمع وتقاليده.
لم نسمع لبعضهم صوتا بشأن المحتوى المندّد بالوضع المتردّي لمضمون وسائل التواصل الاجتماعي ورسائله بل يطلع علينا، كل يوم، في مجال محدد، من يدعو إلى ابتذال أكبر وبخطاب سوقي، يتضمّن الألفاظ التي يمتنع الجزائريون من التلفظ بها. لكن، وفق رأي أنس تينان، وهو محقّ، لم يكن ذلك المضمون المتردّي لينتشر، لو لم يجد له مريدون من أبناء المجتمع، مغيّبو الوعي الذين يسمعون الخطاب، ويشاهدون المحتوى، بل وينشرون الابتذال، ثمّ هناك من يتساءل، لماذا انتشرت المخدّرات، ولماذا هناك جنوح للأحداث، بل ولماذا تكثر الآفات داخل المجتمع وترتفع نسبة الطلاق من دون إغفال ارتفاع نسبة الجرائم الإلكترونية من ابتزاز ونشر الصور الفاضحة، بل والتراشق بالخطاب البذيء، بقصد صنع "الترند" (الرواج) واكتساب المشاهدات والشُّهرة.
الاستمرار في منح ناشري التّفاهة الفضاء الافتراضي سير نحو المجهول وخطر مجتمعي، ستكون له العواقب الوخيمة
لا يمكن إنهاء المقالة من دون الحديث عن نشاطات افتراضية هادفة، فهناك من يحاول موازنة الوضع الرّديء لشكل الخطاب الافتراضي ومضمونه، عبر وسائل التواصل، وهو نشاط يكتسب، يوما بعد يوم، انتشارا، ويصنع وعيا تذوب معه فقّاعات الابتذال في الجانب الآخر. وقد مسّ ذلك النشاط مجالات عدة، حيث انتشرت صفحات مهتمّة بالأسرة، التربية، التعليم، إلى جانب نشر رؤى مفيدة للشباب، تدعوهم إلى التمسّك بالهوية والأخلاق، وتُعلي من شأن منظومة الوعي على حساب المساحة التي باتت التفاهة تحتلُّها وتشكّل بها خطرا على تماسك المجتمع وسياقات وحدته وقوّة بنيانه.
حان الوقت، إذن وعاجلا، لوقف مسار الفتنة والابتذال. ويجب وضع حدّ، كلّ في مستواه، مجتمعا وسلطة، بالأدوات والآليات التي تليق بما يحول دون استفحال الوضع، لأنّ الاستمرار في منح هؤلاء الناشرين للتّفاهة الفضاء الافتراضي سير نحو المجهول وخطر مجتمعي، ستكون له العواقب الوخيمة. وقد بدأنا نرى، ذلك، من خلال الأرقام المهولة لانتشار المهلوسات والمخدّرات في صفوف الشباب، كما أضحت رؤية الفشل الدراسي من تبعات ذلك الابتذال الذي يُعلي من شأن الخطاب الداعي إلى الهوس، ويوقع في العوز الفكري والفراغ الهوياتي، ما ينذر بالخطر، كما أشير أعلاه، على أكثر من مستوى و صعيد.
إنّها معركة الوعي ضدّ التفاهة، وهي أم المعارك، الآن، في الجزائر، وفي كلّ مكان، فهل من مصغ، قبل فوات الأوان؟