الهند: نهوض المعارضة رغم فوز حزب مودي

08 يونيو 2024

مناصر لحزب المؤتمر يحتفل في أثناء فرز الأصوات بالانتخابات في نيودلهي (4/6/2024/Getty)

+ الخط -

كما كان متوقّعاً، فاز التحالف الذي يقوده رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، بما يُؤهّل هذا الأخير لترؤس الحكومة للمرّة الثالثة، خمس سنوات، وقد اقترع 642 مليون شخص في سبع مراحل، بدأت يوم 19 إبريل/ نيسان الماضي. وبينما احتفل حزب بهاراتيا جاناتا بفوزه بـ240 مقعداً، يضاف إليها 60 مقعداً للقوى التي تشكّل منها التحالف الوطني الديمقراطي، فإنّ تحالف المعارضة (تكتّل الهند، وعموده الفقري حزب المُؤتمر) قد احتفل، أيضاً، بالنتائج، وذلك، لتضاعف عدد المقاعد التي حصل عليها عن انتخابات العام 2019، من 52 مقعداً إلى مائة، فيما نال التكتّل مُجتمِعاً 230 مقعداً من جملة مقاعد البرلمان البالغة 543 مقعداً، وهو ما يُؤذن بعودة حزب المُؤتمر، التاريخي، إلى حضوره القوي في الحياة السياسية والعامة بعد انحسار دام نحو ثلاثة عقود، كما يومئ إلى تشكّل تعدّدية قويّة في مجلس الشعب (البرلمان)، بعدما غادرت المعارضة موقعها الهامشي، وباتت في قلب الحياة السياسية ومؤسّساتها، وسط انقساماتٍ اجتماعيةٍ مُحتدِمة تسبّب بها مودي، الذي أدار معركةً حول هُويّة البلاد، كما يراها هو وحزبُه وحلفاؤه، فيما ترزح البلاد تحت وطأة مشكلاتٍ بنيوية مُستفحِلة، رغم ما يحيط بالهند من هالة أنّها خامس اقتصاد في العالم، غير أنّ هذا التصنيف المُتقدّم لا يحجُب أنّ البلاد تحتلّ المركز 128 في العالم في مستوى الدخل الفردي.

في يناير/ كانون الثاني 2024، افتتح مودي معبد رام ماندير، ليبدأ، وإنْ بصورة غير رسمية، حملته الانتخابية. بُنِيَ "رام ماندير" في موقع مسجد بابري، وهو مسجد يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، وقد استباحته جماعات هندوسية يمينية في 1992، ما أدّى إلى موجة عنف ديني دموي لم تشهدها الهند منذ عقود. ومن المفارقة أنّ الحزب الحاكم خسر دائرته الانتخابية في فايز أباد حيث يقع المعبد، وفاز مُرشّحٌ من حزب ساماجوادي المعارض ضدّ مُرشّح الحكومة، وكان بناء المعبد الهندوسي الكبير أداةً رئيسيةً لحملته الانتخابية.

بدلاً من أن يرسم مودي وحزبه خريطة طريق لتنمية شاملة، فقد اختار في حملته تلقين ملايين الهنود دروساً عن ماهية الهند

وبدلاً من أن يرسم مودي وحزبُه خريطة طريق لتنمية شاملة، فقد اختار في حملته تلقين ملايين الهنود دروساً عن ماهية الهند والهنود، وعن موقع الكتب المُقدّسة في تاريخ الهند، وفي تحديد مسار البلاد، ولم يتوانَ عن التعريض بمائتي مليون مسلم من شعبه، ناعتاً إياهم بـ" المُتسلّلين"، ضارباً عرض الحائط بقوانين الانتخابات، وبمبادئ الدستور العلماني التي تحظُر نشر الكراهية، وبدلاً من تحفيز أبناء شعبه على العمل والإنتاج، بعد توفير الوظائف لهم، فإنّ ما يُؤرّق الرجلَ ليس مُعدّلات الفقر العالية، ولا البطالة، ولا الديون التي ارتفعت خلال ولايتي حكمه من 427 إلى 612 مليار دولار حتّى نهاية العام 2021، بل الخشية المزعومة من تزايد أعداد الهنود المسلمين، وعلى نحوٍ قد يتجاوزون فيه عدد الهندوس، كما يهجس الرجلُ، علماً أنّ نسبة المسلمين لا تزيد عن 13% من مجموع مليار وأربعمائة مليون نسمة. وبسلوكه هذا المسلك في إثارة النعرات وشحن الغرائز، وبصورة تصاعدية منذ زهاء عشر سنوات على الأقلّ، فإنّ الرجل اختار طريقه لحجب المشكلات الفعلية وإلهاء جموع الناس عن مصادر معاناتهم، وكيف أنّ النمو الاقتصادي الذي يجري الزَهْوَ به لا ينعكس سوى في حياة شرائحَ ضئيلةٍ من المجتمع، وبينما يُمثّل الأشخاص الذين تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً أكثر من 40% من سكّان الهند، فإنّ 45.8% كانوا عاطلين من العمل بدءاً من ديسمبر/ كانون الأول 2022، وفقاً لمركز مراقبة الاقتصاد الهندي، وهو مركز أبحاث مُستقلّ في مومباي.

ومع صعوبات الوضع الاقتصادي في "أعرق وأكبر ديمقراطية في العالم"، فإنّ حزب بهاراتيا جاناتا يحافظ على ثقافة اجتماعية متوارثة ترقى إلى مستوى الأعراف الثابتة في تقسيم المجتمع وتصنيفه على نحو تراتبي، يبدأ برجال الدين فالعسكريين، ثمّ التجار، وانتهاء بالخدم والمنبوذين، وبينما ألغى الدستور الهندي في العام 1950 تصنيف المنبوذين أو فئة الداليت، فإنّ التمييز ضدّهم ظلّ ساريّاً بحكم التراتبية الاجتماعية، ويبلغ عدد هؤلاء 250 مليوناً، وكانوا من أكثر الفئات تعرّضاً للإصابة بوباء كورونا، كما أنّ نحو 80 مليوناً منهم يقبعون في السجون، ويُعتبَرون من بين أكثر مواطني الهند تعرّضاً للاضطهاد، بسبب التسلسل الهرمي للطائفة الهندوسية، وهو التسلسل الذي يحرص الحزب الحاكم على التمسّك به في إطارِ تشبّثه بتفسيره الخاص لهُويّة الشعب والبلاد، وحيث يجد المسلمون هناك من ينافسهم بين الهندوس في التعرّض للاضطهاد والتمييز.

مع صعوبات الوضع الاقتصادي، يحافظ حزب بهاراتيا جاناتا على ثقافة ترقى إلى مستوى الأعراف الثابتة في تقسيم المجتمع على نحو تراتبي

ومن المفيد هنا المقارنة مع الصين الجارة الكبيرة التي تضاهي الهند في عدد السكّان، فبينما انتُشِلَ مئات الملايين من الصينيين من الفقر المدقع و"التاريخي"، مع حلول العام 2018، فإنّ الهند في عهد مودي لا تضع مكافحة الفقر المدقع على سلّم أولويّاتها، وتعرض دائماً أرقامها عن النمو الاقتصادي بمعزل عن واقع الفقر المطلق في البلاد، ولكأنّ هذا النمو ينمو في بلد آخر. وبينما ارتفع متوسّط نصيب الفرد من الدخل القومي في الهند عام 2022 إلى 2380 دولاراً بعد أن كان 1500 دولار عام 2013، إلّا أنّ هذا النمو لم يُؤدّ إلى انخفاض نسبة الفقر المطلق، وذلك، لأنّ دخول الأفراد شديدة التباين، خلافاً للصين التي وضعت مكافحة الفقر المطلق في مقدّمة أولوياتها واعتبرتها هدفاً قائماً بذاته، بينما ما زال الحكم على الفقر المطلق في الهند يدور حول أنّه جزء من التراث، ومن الحظوظ الاجتماعية والمناطقية المتوارثة عبر آلاف السنين، وليس من الآفات الاقتصادية والاجتماعية، ولا من ضروب التنمية المشوّهة واجبة القضاء عليها.

والراجح، الآن، في ضوء نتائج الانتخابات، أن يشتدّ الحراك السياسي وتزداد معه وتيرة الانقسامات السياسية بين تكتّل أقصى اليمين الفائز والقوى المُعتدلة، الوسطية منها، والعلمانية والديمقراطية، وأن تتجدّد المنافسات على انتخابات الولايات، وذلك بعدما اقترن فوز بهاراتيا جاناتا، وتحالفه، بتراجع حصّته في البرلمان، بعد أن ارتدّت عليه ديماغوجيا التجييش، وازدادت حاجتُه إلى أحزاب صغيرة لتحقيق الأغلبية وتمرير القوانين.