هل تضع الهجرة إلى لامبيدوزا مستقبل أوروبا على المحك؟
تفاقمت الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من باب لامبيدوزا، الجزيرة الصغيرة في قلب المتوسّط بين شواطئ إيطاليا الجنوبية (صقلية تحديداً) وشواطئ أفريقيا الشماليّة (تونس تحديداً)، التي تحوّلت منذ التسعينيّات إلى مرسى الهجرة المكتومة. الأمر الذي دفع رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، الصاعدة من حزب يميني إلى التوجّه، منذ بضعة أشهر (في 17 سبتمبر/ أيلول تحديدًا) إلى تلك الجزيرة مصطحبةً رئيسة المفوّضية الأوروبيّة أورسولا فون ديرلاين. وصرّحت هناك إن "لامبيدوزا تضع المستقبل الذي تريدُه أوروبا لذاتها على المحكّ، لأن مستقبل أوروبا يرتبط بقدرة هذه القارّة على مواجهة التحديات التاريخيّة الكبرى، التي تمثّل الهجرةُ غير الشرعيّة إليها واحدة منها". وإذا بها تطالب بعملٍ أوروبي مشتركٍ يتّخذ إجراءاتٍ حاسمةً تردع هذه الهجرة قبل انطلاقها، استجابةً لما يطلبه، كما عزَت إليهم، المواطنين الأوروبيين والمهاجرين الشرعيّين واللاجئين الذين يستحصلون على حقّ اللجوء، أبقت طبيعة هذا التحدّي الذي تضعه الهجرة غير الشرعيّة أمام أوروبا طيّ التكهّن والافتراض.
تحوّلت جزيرة لامبيدوزا، في سبتمبر/ أيلول من العام 2015، إلى مركز ارتباط ساخن (Hotspot) نتيجة إقرار "المفكِّرة الأوروبيّة حول الهجرة" التي خَلُصَت إليها المفوّضية الأوروبيّة في 13 مايو/ أيار سنة 2015. وذلك بعد أن أُنشئ فيها، في 1998، "مركز الإقامة المؤقتة" الأوّل، الذي أُقفل في العام 2011 بسبب الاضطرابات العنيفة والخطيرة التي شهدتها الجزيرة. ثمّ حلّت في بحرها المأساة الكبرى حينما غرق، ليل 3 أكتوبر/ تشرين الثاني عام 2013، مركب صيدٍ ليبي على متنه زهاء 500 مهاجر قضى منهم 368 حالِمًا بفجر إيطاليّ وبالتالي أوروبّي. وبعد ثلاث سنوات على الفاجعة، أقرّ البرلمان الإيطاليّ القانون رقم 45 الذي نصّ على أن يكون الثالث من أكتوبر "يوم الذكرى والاستقبال"، لإحياء ذكرى جميع ضحايا الهجرة والحثّ على مبادرات تنمّي التعاطف وتقويّ التعاضد. لكن الهجرة إلى تلك الجزيرة الصغيرة تزايدت وقد بلغ عدد المهاجرين، في سبتمبر/ أيلول من العام 2023، حوالي سبعة آلاف شخص في موقع لا تتجاوز قدرة الاستيعاب فيه 400 ضيف، فاستعر النقاش مجدّدًا في أوروبا بشأن مسألة الهجرة، ليتبيّن أن مختلف النقاشات لا تتجاوز حدود الانقسام السياسيّ التاريخيّ في أوروبا بين اليمين واليسار، وأن جميع الإجراءات التي تُتَّخذ لا ترقى إلى مستوى المعالجة الناجعة، ربما لأن المعنيّين لم يتفطّنوا إلى مكنونات الهجرة ودفائنها. ذلك أنهم لم يسألوا صراحةً عن مختلف الدوافع الحقيقيّة الكامنة في أصل الهجرة، بما هي اندفاعٌ ومغادرةٌ وارتحالٌ واغترابٌ وتوسّعٌ واستهلال وتوطّن واستقرار.
مبادرات أوروبا للحدّ من الهجرة مهمّة، سيما التي يدور النقاش بشأنها في الاجتماعات التي تنعقد بين مختلف المسؤولين
أبان فرانكو ريتسي (1944–2017)، أستاذ تاريخ أوروبا والمتوسّط، في كتابه"Un mediterraneo di conflitti, storia di un dialogo mancato" (2004)، الذي نقلناه إلى اللغة العربيّة عام 2005 تحت عنوان "المتوسّط ونزاعاته: تاريخ حوار لم يكتمل"، أن الاتحاد الأوروبي لم يغفل، منذ المدماك الأوّل الذي انطلق منه تأسيس هذا الاتحاد فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعني التنظيم الأوروبي للتعاون الاقتصادي (OECE) الذي تأسّس عام 1948، واتفاقيّة روما (1957) التي بموجبها تأسّست المجموعة الأوروبيّة الاقتصاديّة (CEE)، عن أن المنطقة المحيطة بالبحر الأبيض المتوسّط حفلت على الدوام بنزاعات وتناقضات، فتحتّم على هذا الاتحاد الناشئ اعتماد سياسة تُؤسِّسُ لمسارٍ يفضي إلى ما يُعرف بالاندماج بين البلدان الواقعة على ضفّتي المتوسّط. وقد تكلّل هذا المسار بمؤتمر برشلونة الذي انعقد في 27 و28 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1995. وهو المؤتمر الذي أرسى مفهوم الشراكة الأوروبيّة المتوسطيّة على مستوى العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. وهو المفهوم الذي يرقى بالعلاقة بين الدول إلى مستوى التعاون المتبادَل، والعمل المشترك، والتكافل والتضامن في المسؤوليّة.
خوفٌ حقيقيّ ما لم تدرك أوروبا ذاتها وتستنهض القيم المشتركة التي تتحدّد بها هويّتها
إنتهى المؤتمر بإعلان برشلونة الذي أراد أن تحلّ سياسةُ الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول حوض البحر الأبيض المتوسّط محلَّ سياسة الإعانة والمساعدة، فحدّد غايات هذه الشراكة، وعيّن آليّاتها، ووضع لها برنامج عمل تَوَزَّعَ على ثلاثة محاور: يشتغل الأوّل على الجوانب السياسية ويهتمّ بالأبعاد الأمنيّة؛ ويعتني الثاني بالنواحي الاقتصاديّة ويحرص على الشؤون الماليّة؛ أما الثالث فيحيط بالمدى الاجتماعيّ ويسهر على تأصيل حقوق الإنسان والدفاع عنها. وقد بدا هذا المحور الثالث الأكثر تجديدًا، ذلك أنه رأى "أن الحوار والاحترام بين ثقافاتٍ وأديانٍ مختلفةٍ هما الشرطان الضروريّان كي تتقارب الشعوب". بيد أن تعاظم الهجرة بعد برشلونة يبيّن أن هذه المسألة تتجاوز حدود هذه العناوين التي أولى تطبيقُها جلَّ اهتمامه للشقّ الاقتصادي، كما ظلّت في محورها الثالث "نصًّا نظريًّا".
مختلف المبادرات التي تتّخذها أوروبا للحدّ من الهجرة مهمّة، سيما التي يدور النقاش بشأنها في الاجتماعات التي تنعقد في هذه الأيام بين مختلف المسؤولين في أوروبا، وأبرزها "خطّة ماتّاي" (Mattei)، وهي خطّة استراتيجيّة لإنشاء شراكة جديدة بين إيطاليا ودول القارة الأفريقيّة على مستوى الطاقة والاجتماع (تبدأ في فبراير/ شباط 2024). لكنها لن تصل إلى نتيجة مرضية ما لم تفصح عن حقيقة الخوف الذي تخلّفه الهجرة إليها. والذي قد يكون ناجمًا، في بواطن الإنسان الأوروبيّ، عن الهجرة الشرعيّة قبل أن يتجلّى في الموقف من الهجرة غير الشرعيّة. وعلى الرغم من أن جميع الخطابات التي تندرج في سياق الجدل المستعر حول الهجرة غير الشرعيّة إلى أوروبا لا يلمّح بإشارة واحدة إلى طبيعة التحدّيات التي تضع مستقبل أوروبا على المحكّ، يستبطن بعضُها الخوفَ من أن العجز عن تحويل المهاجر إلى مواطن أوروبي وصبغه بصبغة المجتمع الأوروبيّ سيؤدّي لا محالة إلى انحلال هذه الصبغة. وهو خوفٌ حقيقيّ ما لم تدرك أوروبا ذاتها وتستنهض القيم المشتركة التي تتحدّد بها هويّتها، وتتثبّت من الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف الهجرة، وتعمل على معالجتها من دون مواربة.