النفاق تجاه غزّة
لو أنّ النفاق أراد التجسد في حالة واحدة تكون مثالاً يحتذى عقوداً، لكان بالإمكان الإحالة إلى عديد من المواقف المتخذة تجاه غزّة. منذ بداية الحرب الوحشية الإسرائيلية قبل خمسة أشهر، انقسمت ردود الفعل، فهناك دول، تتصدّرها، طبعاً الولايات المتحدة، تدافع إلى اليوم عن استمرار الحرب على الشعب الفلسطيني انتقاماً لما جرى في 7 أكتوبر، وتتّخذ من القضاء على حركة حماس وضمان الحماية المستدامة للإسرائيليين عناوين رئيسية لتبرير ذلك، من دون أن تنسى أن تكرّر لازمة حماية المدنيين الفلسطينيين. ادّعاء الولايات المتحدة، ومعها دول غربية عديدة داعمة لإسرائيل، ورافضة لفكرة وقف إطلاق النار الدائم، الحرص على سلامة أهالي غزّة، غير قابل للتصديق تحت أي ظرف. على مدى الأشهر الماضية، شاهد العالم مباشرة على الهواء كيف تُقصف منازل المدنيين، والمستشفيات، ومراكز الإيواء، ونقاط التجمّع للحصول على فتات من مساعدات أو طعام، وكيف يقنص الصحافيون والكوادر الطبية، والأطفال... ولم يتبدّل الكثير في مواقف هذه الأطراف لأنها مقتنعة برؤيتها، وتصبُّ كل أفعالها في خانة خدمة التوجّه الذي تراه.
في المقابل، هناك دول، تحديداً عربية وإقليمية، يكاد كلما تنفّس مسؤول فيها نادى بوقف إطلاق النار، وأيضاً حماية المدنيين وإدخال المساعدات ورفض التهجير. وهنا تبرز هوّة واسعة بين الأقوال والأفعال. فلو كانت هذه الدول تعني حقيقة ما يتردّد على ألسنة مسؤوليها، لكان تُرجم ذلك في تحرّكات على الأرض. والمحاججة بانخراط بعض هذه الدول في محادثات متعدّدة للتهدئة والتوصل إلى صفقة التبادل، وحتى ما تسمّى مرحلة ما بعد الحرب و"الدولة الفلسطينية" العتيدة ليس مبرّراً للتخاذل عن تحرّكات كثيرة، لو اتخذت لكان بالإمكان الحدّ من المذبحة التي يتعرّض لها أهالي غزّة، وليس بالضرورة وقفها.
ولو أنّ التصريحات كافية، لكانت فلسطين قد تحرّرت منذ عقود، لكثرة ما صدحت الأصوات بتأييد هذا التوجّه، ولما كان الاحتلال قد تمكّن من تهجير أهالي قطاع غزّة من منطقة إلى أخرى داخل القطاع حتى حشرهم في مدينة رفح، وبات الآن يهدّدها بمصير مماثل.
يلوّح المسؤولون الإسرائيليون، ساسة وعساكر، يومياً بعملية عسكرية يقولون إنها حتمية في المدينة التي تكتظّ بقرابة مليون ونصف مليون إنسان، يفترشون خيماً في طقس بارد أو العراء، ومن دون أن يجدوا طعاماً ولا شراباً ولا ما يكفي من حمّامات لقضاء حاجتهم. و"بروفا" القصف في المدينة، التي جرت قبل أيام بذريعة تحرير رهينتين، أظهرت حجم المجزرة الجديدة المنتظرة، بعدما سقط أكثر من مائة فلسطيني في وقت قصير جرّاء جولة الغارات المكثفة.
ليلتها هام الأهالي على وجوههم، لا يدرون ما يفعلون، فهم بلا خيارات، مناطقهم الأساسية، التي تحوّلت إلى كتل من الدمار، يمنعهم الاحتلال من العودة إليها، والحدود مغلقة أمامهم. خيارهم الوحيد انتظار لحظة الموت.
ما الذي يمكن لأهالي غزّة فعله؟ لا شيء أكثر مما قدّموا طوال الأشهر الماضية. في المقابل، هناك الكثير مما كان يمكن أن تقدّمه الدول العربية والإقليمية، وحتى الإسلامية، لغزّة، لكنها تخاذلت عنه. يكفي أن عشرات الدول اجتمعت قبل ثلاثة أشهر وتبنّت كسر الحصار عن القطاع، لكنها لم تجرؤ على تنفيذ هذا القرار. وحتى عندما حمّلت إسرائيل مصر مسؤولية عدم إدخال المساعدات أمام محكمة العدل الدولية، بعدما وجدت نفسها بمواجهة تهمة الإبادة الجماعية، لم تستثمر القاهرة اللحظة والسماح بتدفق المساعدات. الحديث عن رفض التهجير وضرورة بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه ليس كافياً لتحقق ذلك، ما لم يرفد بإسناد فعلي. والإحالة إلى تصريح هنا وموقف هناك من دون أفعال حقيقية على الأرض لا يمكن تفسيرها إلا بالخذلان والنفاق.