النضال العربي ضد جنوب أفريقيا
انقضى نحو أسبوعين على قرارات محكمة العدل الدولية ضد جرائم الكيان الصهيوني على قطاع غزّة، وهي القرارات التي استقبلها العرب الرسميون بحفاوة، ثم بدأوا في النضال عكسها.
كان المتصوّر أن هذه القرارات التاريخية ستشجع الأطراف العربية المتداخلة مع العدوان على غزّة على فعل ما كان ينبغي عليها فعلُه، فجبنت أو تردّدت أو تواطأت على القيام به قبل صدور مقرّرات المحكمة الدولية، والتي وفّرت المظلة القانونية والسياسية الأممية الكافية لاتخاذ ما يردع العدوان ويخفّف من آثار هذا التوحش على الشعب الفلسطيني.
تصوّرنا شجاعةً في تحدّي الحصار على الشعب الشقيق وكسره، من جهة معبر رفح، غير أن ما حصل هو مزيد من الكسر المتعمّد لأحلام هذا الشعب وطموحاته في دخول المساعدات وإيقاف المذابح، أو على الأقل التقليل منها، وتقوية الموقف التفاوضي للعواصم العربية المنخرطة في صفقات التبادل وتفاهمات الهدنة، والضغط على العدو للقبول بوقف إطلاق النار.
لم نجد سوى ركضٍ خلف العدو بالمبادرات التي تضع قضية الأسرى من قوات الاحتلال الاعتبار الأهم والأولوية الأكبر في المعروض من الصفقات، فيما لا تُذكر قضية الأسرى الفلسطينيين في سجنه إلا في الهامش، فضلاً عن الرضوخ لمقاربات المعتدي لمفهوم الهدنة، بوصفها استراحة محاربٍ مجرمٍ إلى حين استرداد أسراه ثم استئناف القصف والتدمير.
الأسوأ من ذلك بكثير أن تجد كل هذا الجهد الجهيد والنضال العنيد سيرًا عكس اتجاه الانتصار القانوني التاريخي الذي أنجزته جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، بما يبدو وكأن المقصود هو إبطال مفعول القرارات الأممية، وإيجاد مخرجٍ للكيان الصهيوني من المأزق القانوني والأخلاقي الذي وضعته فيه تلك الوثيقة التاريخية، التي تذكر الجميع بالقضية الأساس: شعب يقاوم احتلالًا استولى على الأرض ويمارس جرائم حربٍ لإجبار هذا الشعب على النزوح، وهو ما يعني في نهاية المطاف ممارسة شكل من أشكال الإبادة الجماعية، ومن ثم يقع على عاتق المجتمع الدولي الحيلولة دون إكمال هذه الجريمة، والعمل على إيصال ما يلزم من المساعدات وقوافل الإغاثة لإيقاف المقتلة ومعالجة الجرحى ودفن الضحايا من الشهداء الذين يتناثر رفاتهم في كل مكان على أرض غزّة التي محيت معظم معالمها من الوجود، ويهيم سكانها على وجوههم في الشوارع والطرقات.
طبيعي والحال كذلك، أن يضاعف الاحتلال من كميات الوقاحة والتسفل في تعامله النازي ونظرته العنصرية للشعب الفلسطيني، إذ يجدد المجرم وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير تصريحاته عن حتمية اقتلاع الفلسطينيين من غزّة، بمواصلة الحرب العسكرية القذرة من جهة، وتشجيعهم على مغادرة بلادهم إلى المنافي بتوزيعهم على دول العالم، من جهة ثانية، ولا ينسى أن يعلن احتقاره لفكرة تقديم المساعدات الإنسانية والوقود لغرة، ويشن هجومًا على الرئيس الأميركي جو بايدن في هذا الإطار.
لماذا لا يتحدّث بن غفير وكل صهيوني آخر عن تهجير الفلسطينيين بهذه الثقة، وهو يرى العرب يسيرون الجسور البرية لتأمين دخول البضائع والقوافل إلي إسرائيل، بعد أن تسبّبت عمليات الحوثيين البحرية في منع السفن التجارية العالمية من الوصول إلى إسرائيل؟
لماذا لا يمعن الصهيوني في إجرامه وهو يتابع هذا المجهود الحربي العربي لدعم إسرائيل، عن طريق الجسر البري الذي ينقل البضائع من موانئ الإمارات والبحرين، عبر السعودية والأردن، ومصر أيضًا، إلى الكيان الصهيوني، بحسب تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة شبكة الشاحنات (Trucknet Enterprise Ltd) الإسرائيلية حنان فريدمان.
لماذا لا يستخفّون بكل شيء وهم يجدون الدبلوماسية العربية تسير في ركاب تصور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للصراع، وتسلك وكأن الحكاية كلها مساعدة جماعة عرقية محرومة من الغذاء والدواء، لا قضية كفاحٍ مشروعٍ لتحرير الأرض ومقاومة الاحتلال بالقوة، يستلزم أول ما يستلزم الدعم الكامل لصاحب الحقّ، لا الضغط عليه للقبول بما يمليه الاحتلال.