المواطن المصري بين شقّي الرحى
مسكين هذا المواطن المنتمي لهذه البقعة الجغرافية الشاسعة في الوطن العربي والتي تضم ما يزيد على مائة مليون مواطن، والذي يعاني مجدّداً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فهو لا يكاد يجد قوت يومه حتى لو اشتغل ساعات إضافية في أعمال أخرى، لدى القطاع الخاص، أو في أي نشاط تجاري آخر ليأتي بدخل إضافي لأسرته، حتى لو كان يبيع المناديل الورقية عند إشارات المرور.
وتزيد أزمته الطاحنة خلال السنوات الأخيرة بسبب أوضاع اقتصادية لم يكن أحد أسبابِها، ولا استُشير بخصوصها، وتكاد تطيح التوازن الاجتماعي المصري، وفي مقدّمتها الطبقة المتوسطة إلى مهبّ الريح، ومعها تلك الطبقات الفقيرة، والتي لا تجد قوتها اليومي، مع غياب الحد الأدنى للمعيشة ليصبح الكلّ في الهم سواء. وعانت تلك الطبقات، أخيراً، تدهوراً غير مسبوق في مستوى معيشتها، بعدما فقدت تلك المعادلة التي أمّنتها الحقبة الناصرية، واستمرت سنوات طويلة، بضمان الحقّ في التعليم والعمل، والسكن بسعر مناسب، وكفلت وضعا اقتصاديا واجتماعيا آمنا لملايين المصريين من عمّال وفلاحين وموظفين صغار، وأعطتهم املا في حراكٍ طبقي إلى الأعلى.
لا يكاد المواطن المصري ينتظر تغييراً سياسياً ما، وكله أمل في تغيير أوضاعه الصعبة حتى يفاجأ بأنه في حالٍ أسوأ من ذي قبل... منذ انتهاء حرب أكتوبر انتظر وعد السادات بعام الرخاء والذي لم يتحقق، واستغلّت ثمار النصر طبقة رأسمالية انتهازية، فُتحت الأبواب أمامها لنيل كل المكاسب التي أتاحتها دولة (الانفتاح السداح مدّاح)، على رأي الكاتب الراحل، أحمد بهاء الدين، بالحصول على التوكيلات وبيع الأغذية الفاسدة، ولم تتحسّن حالة المواطن البسيط إلا من سلك طرقا احتيالية، أو سافر للعمل في دول الخليج. وأمل هذا المواطن أن تتغيّر أوضاعه بهبوب رياح ثورة 25 يناير بشعاراتها النبيلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وأطاحت حكم حسني مبارك، لكنّ ما حدث بعدها كان كابوساً لم يحلم به أشدّ المتشائمين بالالتفاف على أهداف تلك الثورة المجهضة.
يعاني المواطن المصري من تحميله مسؤولية الأزمة دائما، ولا تتوقف أجهزة الإعلام الرسمية عن ترديد ذلك
واستمرّ حلم هذا المواطن بالزعيم المخلّص والقائد الضرورة الذي وعده به إعلام ما بعد "30 يونيو"، بعد إطاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين، ليأتي نظام عبد الفتاح السيسي بمؤسّسته العسكرية رافعاً شعار "متصدّقوش حد غيري" ليتفاقم الوضع الاقتصادي بمزيدٍ من الاقتراض من الخارج، وإنشاء عشرات المشاريع غير المجدية، والتي استنزفت تلك الأموال، ولم يستفد منها المواطن، وأوصلت تلك السياسات البلد إلى حافّة الإفلاس، والتسوّل من كلّ المنظمات الدولية والبلدان الإقليمية، ما جعل البلد أداةً في أيدي الإرادات الدولية والإقليمية المختلفة، لتذهب أحلامه مرة أخرى أدراج الرياح.
عاش الجميع في صراع يومي من أجل البقاء ولم يقتصر هذا على الفقراء والغلابة فحسب، بل انضمت إليه فئات أخرى من المهنيين وموظفي الحكومة وأصحاب المحال والشركات التجارية وملايين الشباب المضافين إلى طابور البطالة.
مع ذلك، يعاني هذا المواطن من تحميله مسؤولية الأزمة دائما، ولا تتوقف أجهزة الإعلام الرسمية عن ترديد ذلك، فهو السبب دائما نتيجة الزيادة السكانية التي تمثل عبئا على ميزانية الدولة، بالإضافة إلى نقد سلوكياته اليومية في كثرة الإنجاب وتناول الطعام واستخدام التليفون المحمول! ومجدّدا بات هذا المواطن متّهما بتخريب البلد بالمشاركة في ثورة يناير التي يحمّلها النظام مسؤولية أساسية لهذا الوضع الاقتصادي بالتناقض مع احتفاء السيسي بها في بداية توليه السلطة!
تحوّلت الحكومة إلى شركة تجارية أو سمسار مرابٍ يخدع الزبون للحصول على أمواله بشتى الطرق
كما استمرّت الدولة في تكريس خطابٍ ينفي مسؤوليتها والتزاماتها تجاه الشعب، فهي لا تستطيع تقديم تعليم أو صحة أو سكن أو توظيف جيد فما هي مهمتها إذاً؟! ولدى الإدارة انطباع بأن لدى ذلك الشعب أموالا كثيرة لا بد من دفعها في الفواتير والرسوم اليومية، وتسديد فاتورة ما أهدرته من أموال. بالإضافة إلى سعي دائم لتحقير (وإهانة) الشعب الذي كان يلقب بـ"المعلم" يوما ما بمقولة "أنتم فقراء قوي". ومثيلتها "هتاكلوا مصر يعني". وإذا لجأ هذا المواطن للانتحار تجاهلت الدولة مناقشة الأوضاع المؤدية إلى هذا الإحباط الاجتماعي، بل بات في نظرها كافرا وعاصيا، وإذا فشلت محاولته فكّرت تلك الأجهزة في تغريمه ماليا. وإذا شكا هذا المواطن وجهت إليه برامج "التوك شو" المسائية لومها الدائم، فكيف يشكو جوعه وجوع أولاده، وتتناسى ما قاله الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، لا يخرج على الناس شاهراً سيفه". ولو بثّ همومه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أطاحته اتهامات التخوين، وتحوّلت الحكومة إلى شركة تجارية أو سمسار مرابٍ يخدع الزبون للحصول على أمواله بشتى الطرق، موهماً إياه بطرق احتيالية أنّ هذه مسؤوليته، تحت شعار "صبّح على مصر بجنيه". ومثيلتها "يعيش الوطن واحنا مش مهم"، وكأنه يمكن الانتماء للوطن في ظل انتهاك حقوق مواطنيه ومنعهم من الحصول على الخدمات الأساسية.
يجد المواطن المصري نفسه فريسة لاتهامات تلاحقه أينما ذهب، لأنه تجرّأ ونشر شكواه في قناة فضائية معارضة أو كتب تدوينة على حسابه على "فيسبوك" ليواجه بسلسلة لا تنتهي من الاتهامات الواردة بقانون العقوبات من عينة "نشر أخبار كاذبة، والتحريض على قلب نظام الحكم، ومشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أغراضها، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي" لتطيحه خلف أبواب السجون أعواماً طويلة من دون إحالته إلى قضاء مستقلّ وعادل. وإذا صمت أغرى صمتُه الإدارة بمزيد من الإجراءات الاقتصادية والقاسية ضده، خصوصاً في ضوء التزاماتها مع صندوق النقد الدولي، والتي تكاد تحوّل مصر إلى دولة تُدار سياساتها وتُوجّه عبر هذا الصندوق.
إذا كان هناك لوم يمكن توجيهه إلى المواطن المصري فهو سلبيته وعزلته وعزوفه عن المشاركة في الأحزاب السياسية
كما أصبح هذا المواطن نهباً لكوابيس أخرى تهدّد حياته، منها نقص المياه بسبب سد النهضة، وما يثار ببيع قناة السويس، وإمكانية فصله من العمل الحكومي، بسبب توجّه الدولة إلى التخلّي عن عاملين كثيرين في الدولة لتخفيف ميزانيتها. وعليه الرضى بمزيد من أرجل الدجاج، والتوقّف عن الشكوى من الجوع وانهيار الجنيه وغلاء الأسعار، وإلا سيواجَه بمصير سورية والعراق وليبيا، وكأنّ هؤلاء ملائكة، وليسوا بشراً يمكن أن يعيشوا في ظل فقر وجوع دائم. ولا تتذكّره هذه الإدارة إلا وقت الانتخابات، بشراء صوته بكرتونة زيت وسكر، وإذا تمنّع عنها زوّرت إرادته، وخرجت نتيجتها كما تريد.
وإذا كان هناك لوم يمكن توجيهه إلى المواطن المصري فهو سلبيته وعزلته وعزوفه عن المشاركة في الأحزاب السياسية، وأي حراك شعبي ومهني، للمطالبة بحقوقه والتعبير عن همومه بشكل جماعي، نتيجة ممارسات الدولة القمعية تجاهه.
والمشكلة الأخرى أنّ الدولة في مصر، كعادة بلدان العالم الثالث، لا تؤمن بمفهوم المواطنة، وبأن عليها التزامات تجاه مواطنيها، وعليها أن تحقّق ما تقوم به أي حكومة منتخبة من توفير العيش الكريم لهم، وبناء شرعيتها على رضى المواطنين على سياسات الدولة، ومشاركتهم في وضع هذه السياسات ومراقبتها ووقفها، إذا تسبّبت في ضررٍ بهم.