"المكتوب واضح من عنوانه"

05 فبراير 2023

(وسام العابد)

+ الخط -

"الرسالة واضحةٌ من عنوانها"، عبارة لطالما تردّدت بكل اللهجات المحكية في الثقافة اليومية في بلادنا العربية من المحيط إلى الخليج. وحيث يُراد من استخدامها الإشارة إلى أن مجرّد قراءة عنوان الرسالة يكفي لمعرفة المضمون، وبالتالي لا حاجة للاستفاضة. ولكن، متى كانت الثقة عاليةً بالأقاويل الشعبية لدى حاملي الحد الأدنى من الفكر النقدي؟ فكم من النصوص انتقدت وفكّكت مثل هذه الأقاويل، وأحالتها على الخيال التقليدي الانهزامي. لكن إطلاق هذا الحكم جزافاً يمكن أن يكون أيضاً نوعاً من المبالغة، لأن حكَماً شعبية كثيرة تصدُق وتمثّل واقعاً يجدُر التوقّف عنده، ولو بلحظة تفكير.

عن أية رسالة وعن أي عنوان نتحدّث هنا؟ في السنة الأولى للثورة السورية، وقبل تحوّلها بفعل فاعلٍ إلى مقتلة، دعت مجموعة من المفكّرين والسياسيين المعارضين إلى لقاء "أكاديمي" جرى في عاصمة عربية للتفكير عميقاً بمسارات الانتقال الديمقراطي المنشود في بلادٍ مضت عليها العقود، وهي ترزح تحت نير الحكم التسلطي والقمع المنهجي وثقافة الخوف وشيوع الفكر المنهزم أو الخاضع. وقد كانت القائمة تحتوي على أبرز ممثلي التيارات الفكرية وأبرز أصحاب الموقف النقدي الوطني.

ومن باريس، حملت الطائرة مجموعة هي الأهم منهم، حيث، للمصادفة، كان مشاركون في اللقاء كثيرون يقيمون في العاصمة الفرنسية. وقد تكرّمت الجهة المنظّمة على المشاركين المدعوين بحجز مقاعد مريحة في قمرة درجة الأعمال، تقديراً منها بأن الشخصيات المدعوّة تحتاج راحة تتناسب مع أعمارها المتقدّمة، ومع الحاجة لتخصيص الوقت للتفكير، وليس لمعالجة عناء السفر الطويل. وفي منتصف زمن الرحلة، نهض أحدهم، وهو من البارزين، على الأقل في الكلام، في المواقف النضالية والحقوقية، ودعاني لكي أرافقه باتجاه مقصورة الدرجة السياحية. وعلى اعتبار أنني كنت في حينها أصغر المدعوين سنّاً، امتثلت لطلبه لباقةً واعتقاداً مني بأنه يريد أن يتنزّه قليلاً برفقتي. وعند وصوله إلى مقعد شاغر في الدرجة السياحية، جلس عليه فوراً وأنا خلفه منتصب القامة لا أمشي أنتظر معرفة السبب. فالتفت لي طالباً تصويره في هذا المكان، ومشدّداً على أن أُظهر بوضوحٍ أنه في الدرجة السياحية. وعندما بدأت بالامتثال لطلبه، أضاف قائلاً ومصحوباً بابتسامة عريضة أنه صوّر زميل نضال في درجة الأعمال، وبالتالي فهو سينشر صورته في الدرجة السياحية الى جانب الآخر في درجة الأعمال على وسائل التواصل، ليُظهر الفارق الذي يستحق التوقف عنده، خصوصاً في هذا الظرف الوطني الهام. امتنعت عن الاستمرار في إنجاز المهمة "القذرة"، وعدت أدراجي مصاباً بنوعٍ من الإحباط المبكّر والحزن العميق على مستوى الانتماء إلى قضية بأهمية المسألة السورية لدى هذا الإنسان ومن يمثله ومن يُماثله. وتنبأت بمصير قاتم لمسار التحوّل المنشود في ظل "قيادات" من هذه النوعية.

حكم شعبية كثيرة تصدق وتمثل واقعاً يجدر التوقف عنده ولو في لحظة تفكير

في السنة الثانية من مسار الثورة السورية، وقبل انتقالها بقليل إلى مرحلة المقتلة، عقدت أكثر من 126 دولة مؤتمراً لأصدقاء الشعب السوري في مقرّ وزارة الخارجية الفرنسية، حضره كبار قادة العالم أو ممثلوهم لتدارس الملف السوري، وللتعبير عن التضامن مع سعي الشعب السوري، أو جزء منه، للتغيير الديمقراطي والتخلص من ثقافة الخوف، والرعب، والقمع، والمذلّة. وكان جسم المعارضة السورية الأول قد تشكّل وشارك وفد كبير من ممثّليه في هذا المؤتمر. وقبل افتتاح الجلسات، شعرت بنوعٍ من التوتّر يسود أوساط بعض المشاركين السوريين. وعندما حاولت تقصّي أسبابه، واعتقدته بداية ناجماً عن مشكلات بنيوية مهمة في تنظيم اللقاء أو في ترتيب المواعيد أو الجلسات، فإذا بي أُفاجأ بأن سبب التوتر الرئيسي في أوساط بعضهم أن فندق الإقامة ذو نجوم ثلاثة فقط، معتبرين ذلك مؤشّراً على عدم احترام الجهة المستضيفة ذواتهم المهمة.

في السنة الثالثة للثورة/ المقتلة السورية، دعيت، بصفتي باحثاً أكاديمياً، إلى أن أستعرض أمام هيئة سياسية معارضة كانت ستشارك في مفاوضاتٍ لا تملك أوراقاً سياسية جاهزة لها، نتائج عمل مجموعة أكاديمية بلغ عدد أفرادها أكثر من سبعين سورية وسورياً اجتمعت طوعياً على امتداد أشهر طويلة، لتخرج بتوصيات علمية لها علاقة بالدستور والحوكمة والانتقال الديمقراطي والتعدّدية والانتخابات، .. إلخ. وسافرت على عجل مسافةً طويلة، وانتقلت من المطار إلى مقر إقامة الهيئة الموقّرة. وبعد أن بدأت عرضي المختصر بدقائق قليلة، نظر أحدهم الى ساعته ودعاني إلى اختصارٍ أكبر بسبب قرب موعد الغداء، وخشيته من أن يُغلق مطعم الفندق ذو النجوم الخمسة، فانسحبت مُحبطاً وعدت إلى المطار مودّعاً بمثل ما استقبلت به من قلة حماسة وجوع مبكر.

يُحكى أن زعيم الثوار الفيتناميين هوتشي مينه (1890 ـ 1969)، عندما كان يُفاوض الأميركيين المحتلين لبلاده في باريس، كان يرفض عروض الاستضافة من الحكومة الفرنسية، مُفضلاً الإقامة في غرفة طالب فيتنامي في المدينة الجامعية.

هل كان المكتوب على السوريين والسوريات واضحاً من عنوانه؟