المعارضون السوريون بين الداخل والخارج
ينطوي الكلام المستقر في اللغة السياسية السورية اليوم، عن معارضة داخلية وأخرى خارجية، على التباسات عديدة تعكس التباسات الواقع السياسي في سورية. كما ينطوي، إلى ذلك، على شحنة تنافر، وعلى ميل إلى التبخيس المتبادل بين الطرفين، لم يحمل ولا يحمل خيراً للشعب السوري.
المعارضون في الداخل لا يسمون المعارضة التي في الخارج "معارضةً خارجية" بل "معارضة الخارج"، أي تتم إضافتها إلى الخارج لغوياً، رغبةً في تضمين التسمية معنى الالتحاق أو التبعية السياسية للخارج. من دون استعداد للتفكير فيما أدّى إلى نشوء ظاهرة المعارضة الخارجية، أو في فساد فكرة الربط الآلي بين الخارج والتبعية. في المقابل، وعلى اعتبار أن الإضافة إلى الداخل لا تتضمن بذاتها معنىً سلبياً، فقد اعتمد المعارضون "الخارجيون" تسمية معارضة الداخل "معارضة النظام"، في تضمينٍ يقول إن النظام يستغرق الداخل السوري، وإنه لا محل بالتالي لمعارضةٍ في الداخل، ما لم تكن على هوى النظام وبرضاه ومنسوبة إليه.
المشكلة الأصلية التي واجهتها دائماً الأحزاب المعارضة لنظام "حرق البلد" هي القمع الاستئصالي. في مثل هذا النظام، يوجد مزيج صلب يجمع الطبيعة الأمنية الشديدة إلى التعبئة السياسية الفاشية ضد المعارضين. وتقوم هذه التعبئة على اعتماد مبدأ عصبوي متعدّد الوجوه في شد الأتباع، إلى جانب نسف الأساس السياسي للمعارضة. في ذهنية النظام وجمهوره، لا يوجد محل لمعارضة سياسية. وفق هذه الذهنية، لا تنشأ المعارضة السياسية على أرضية سياسية حقيقية، بل تنشأ على أرضية فساد أخلاقي (حسد، خيانة، كراهية، أنانية، طمع ... إلخ) يتغلف بالسياسة، كي يتمكّن من التغرير بالمغفلين. المعارضة، إذن، هي عدوان على المجتمع وعلى البلد بدوافع شرّيرة، تغذيها جهاتٌ لا تريد خيراً للبلد الذي يشكّل النظام تجسيده الكامل. من المشروع، إذن، حرق كل نزوع معارض. بفعل هذه التعبئة، ظهر جمهور النظام، بعد الثورة، أكثر ميلاً إلى قمع المعارضين من أجهزة النظام. وبفعلها نبت القول الفاشي الصريح: تطهير البلد بالحرق.
في ذهنية النظام وجمهوره، لا يوجد محل لمعارضة سياسية. وفقها، لا تنشأ المعارضة السياسية على أرضية سياسية حقيقية، بل تنشأ على أرضية فساد أخلاقي
العلاج الذي اعتمدته المعارضة السياسية لهذه المشكلة قبل 2011 كان العمل السرّي، وهذا ما اختارته بضعة أحزاب، فلكي يتاح للحزب المعارض أن يقول رأيه السياسي بحرية، كان عليه أن يعمل تحت الأرض، وفي جو من الملاحقة الأمنية الدائمة التي أنتجت آلاف السنوات من السجن، وخراب حياة مئات العائلات، وتدمير مستقبل آلاف البشر. وبعد كل شيء، لم تكن النتيجة السياسية شيئاً يُذكر، فقد نشأت هذه الأحزاب وانتهت تقريباً من دون أن يدري بها الشعب السوري.
في الفترة نفسها، رأت أحزابٌ سياسية أخرى أن من الأجدى تفادي المواجهة مع النظام، وتشكيل ما يمكن تسميته "يسار النظام"، عبر المطالبة والضغط من داخل النظام، أو من جواره، وبشكلٍ لا يستفز عدوانيته، أو يحرّض غريزته القمعية. لم يكن لهذه الاستراتيجية تأثير يذكر أيضاً، وقد تمكّنت آلية النظام من ابتلاع من دخل فيه، ومن تهميش من ظل إلى جواره.
لا يتمتع النقد الذي يوجّهه معارضو الخارج لمعارضة الداخل بمصداقية أخلاقية، فالداخل هو من يواجه خطر القمع والتضييق، فيما يتمتع من هم في الخارج بالأمان
كان في اللوحة السياسية، إذن، أحزاب سرية، تعارض بجرأة، وأحزاب علنية تواكب النظام من اليسار، أو قل تدعمه من اليسار. أما التيار الإسلامي فكان قد بادر إلى مواجهةٍ دمويةٍ مع النظام، خسرها والتجأ إلى الخارج، بعد أن حرق النظام وجوده في الداخل، بفعل القمع الدموي الرهيب، إضافة إلى القانون 49 لعام 1980، الذي يحكم بالإعدام على منتمي الإخوان المسلمين.
بعد وفاة حافظ الأسد ووراثة ابنه الحكم (صيف عام 2000)، تحرّكت اللوحة السياسية قليلاً في سورية، وظهر بعض النشاط العام المستقل، ولكن سرعان ما ارتدّ النظام على هذه الأنشطة، واستعاد وجهه الأمني القديم. في هذا الوقت، كانت الأحزاب السياسية المعارضة قد حفظت درساً يقول إن العمل السري شديد الكلفة وقليل الجدوى. بعض الأحزاب السرّية التي كان قد حطمها القمع، رمّمت نفسها وبدأت تجرّب العلنية مع تجنب إغضاب الوحش.
عقب الثورة، ومع صمود الطغمة الحاكمة، تفجّرت اللوحة السابقة، واستقرّت على شكل جديد. بدلاً من ثنائية (سرّي/ علني) ظهرت ثنائية (خارج/ داخل). في اللوحة الجديدة، بات الخارج صنو السرية، فهو المكان الذي يتيح للمؤسسة المعارضة أن تكون أكثر جذريةً في قولها. مع ملاحظة أن الخارج يعني الأمان للمعارض، فيما كان العمل السرّي محفوفاً بالخطر الدائم. أما الداخل فقد بات صنو العلنية. وفي الحالتين، تقع الأحزاب تحت مرمى نيران أجهزة الأمن.
المصير الذي انتهت إليه الثورة لم ينجم عن اعتدال سياسة المعارضة الداخلية، أو عن جذرية المعارضة الخارجية
النقد الذي كانت توجهه الأحزاب المعارضة السرّية في زمانها للأحزاب المتحالفة مع النظام، أو المتعايشة معه، كان يمتلك دائماً مصداقية أخلاقية على الأقل (إذا وضعنا جانباً المعنى والقيمة السياسية للنقد)، لأن هذه الأحزاب كانت بالفعل تضع نفسها في مواجهةٍ خطيرةٍ مع النظام، لم تكن الأحزاب العلنية لتجرؤ عليها. أي كانت الأحزاب الجريئة تدفع ثمن جرأتها. في اللوحة الجديدة، لا يتمتع النقد الذي يوجّهه معارضو الخارج لمعارضة الداخل بهذه المصداقية الأخلاقية، ذلك أن الداخل هو من يواجه خطر القمع والتضييق، فيما يتمتع من هم في الخارج بالأمان. بهذا المعنى، فإن جرأة الخارج الجريء مجانية. على أن الوثيقة التي نشرتها معارضة الداخل، الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) في استعدادها لمؤتمر كان سيعقد في 27 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، ولم يسمح به النظام، تضمّنت طرحاً سياسياً جريئاً، لا يفضله طرح المعارضة الخارجية في شيء.
القول إن وجود معارضة الداخل شقّ المعارضة، وساعد النظام على المناورة واستثمار هذا التبعثر صحيح، لكن الحقيقة أن في مقدور معارضة الداخل أن تقول الشيء نفسه حيال المعارضة الخارجية. ومعلومٌ أن معارضة الداخل تبلورت في تنظيمٍ موحد، قبل أن تتبلور معارضة الخارج، هذا فضلاً عن أن القاعدة هي وجود المعارضة في الداخل، وليس في الخارج.
الحق أن المصير الذي انتهت إليه الثورة السورية لم ينجم عن اعتدال سياسة المعارضة الداخلية، أو عن جذرية المعارضة الخارجية، بل قاد إليه انقسام المعارضة بين داخل وخارج، وعدم وجود خط سياسي موحد ومستقل يخدمه من في الخارج ومن في الداخل معاً.