المعارضة المصرية والاقتصاد
لا صوت يعلو في مصر على صوت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ مارس/ آذار الماضي. لا صوت يعلو على صوت الجنيه المتراجع أمام الدولار، والتضخّم المتصاعد، وقرض صندوق النقد الدولي المتأخر، وأصول الدولة التي يجرى بيعها. في المقابل، يبدو صوت المعارضة المصرية، ما عدا بعض النشطاء ووسائل الإعلام القليلة المتبقية وقليلاً من الباحثين، غائباً بلا تأثير يُذكر. ولعلّ في تلك المفارقة تذكيراً بقضايا رئيسية تفسّر لنا أسباب تراجع فرص التغيير الإيجابي في مصر ودول كثيرة في المنطقة.
أولا: تذكّرنا المفارقة السابقة بالدور الكبير الذي يلعبه الاقتصاد في الشارع المصري، وربما العربي أيضاً، فالأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم في عام 2008-2009 كانت من أسباب انتفاضات الربيع العربي. كما أنّ الجماهير التي خرجت دعماً لتلك الانتفاضات رفعت شعارات مختلفة، في مقدمتها العيش أو رغيف الخبز والوظائف، والرغبة في حياةٍ كريمةٍ لائقةٍ بالمفهومين الاقتصادي والسياسي معاً، كما أنّ موجة الردّة التي تعرّضت لها انتفاضات الرئيس العربي بداية من منتصف عام 2012 ارتبطت كذلك بمخاوف المواطنين من عدم الاستقرار وتأثيره الاقتصادي، وضعف خطاب المعارضة السياسي والاقتصادي، وعدم امتلاك المعارضين حلولاً سريعة أو واضحة لمشكلات البلاد.
ثانياً: تتناقض المفارقة السابقة مع التركيز المفرط على قضايا الهوية والأيديولوجيا، الذي هيمن على الخطاب السياسي لغالبية القوى السياسية، خصوصاً في السنوات الأولى من الربيع العربي. ففي مصر مثلاً، أهدرت طاقاتٍ كثيرة في التركيز على قضايا تتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة، والدين والعلمانية، ودور الشريعة في الدستور، وموقف القوى الدينية من قضايا الحريات، ومخاوف الأقباط والقوى اليسارية والليبرالية، وفي ظلّ الأزمة الراهنة، وهي أكبر أزمة تواجه النظام منذ صعوده إلى السلطة في 2013، تبدو تلك القضايا السابقة ثانوية أو قليلة الأهمية مقارنة بالأزمة الاقتصادية نفسها، على الرغم من الأهمية النسبية لتلك القضايا.
تعيش المعارضة المصرية منذ 1952 ظروفاً غير طبيعية في ظل دولة أمنية تحكمها عدة مؤسّسات أمنية وليس مؤسّسة واحدة
ولعلّ ذلك يثير أسئلة عديدة عن أسباب ذلك التركيز الطاغي على قضايا الهوية والأيديولوجيا في السنوات الأولى من الربيع العربي. هل كان انطلاقاً من أجندة الجماعات المعارضة نفسها، والتي تميل إلى تلك القضايا على حساب قضايا الاقتصاد والسياسات العامة؟ أم هو نوع من الاستدراج فرضته النظم الاستبدادية نفسها ووسائل الإعلام التابعة لها؟
ثالثاً: في المناسبتين، بعد الثورات وحالياً، بدا خطاب المعارضة المصرية عامّاً ومشتّتاً، فالسائد حالياً هو خطاب عام فضفاض، ينتقد النظام بشدّة ويتهمه بإغراق البلاد في الديون، وبعسكرة الاقتصاد، وباختلال الأولويات الاقتصادية والتخطيط، وهي اتهاماتٌ فيها قدر من الصحة، لكنّها تفتقر إلى التفاصيل والدراسات، وتخلو من طرح البدائل. وتمتلئ وسائل التواصل، ووسائل الإعلام المعارضة القليلة المتبقية، بالنقد الحادّ والهجوم المستمر على النظام، لكنّها مرّة أخرى تفتقر إلى التفاصيل والحلول الواضحة، ما عدا بعض الأقلام المتخصّصة المنتمية لخبراء اقتصاديين، أو صحافيين متخصّصين في الشئون الاقتصادية، أو حقوقيين معنيين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولا يختلف الحال كثيراً عن السنوات التالية للثورة، والتي ظل يهيمن عليها خطاب معارض فضفاض، يميل إلى التركيز على المظلومية وقضايا الهوية والأخلاق، ولكنه يفتقر إلى التفاصيل والبدائل السياسية.
رابعاً: في الحالتين، يبدو ضعف المعارضة مبرّرا، فالمعارضة المصرية تعيش منذ 1952 ظروفاً غير طبيعية في ظل دولة أمنية تحكمها عدة مؤسّسات أمنية وليس مؤسّسة واحدة، وفي ظلّ تغوّل تلك المؤسسات على مختلف أوجه حياة المصريين من سياسة، واقتصاد، وتعليم، وثقافة. في مثل هذه الظروف، لم يسمح بظهور أي معارضة قوية أو مستقلة، وتم تقويض، وربما تدمير، أي محاولاتٍ لتأسيس معارضة جادّة بشكل مستمر. وما زالت المعارضة المصرية تعيش منذ 2011 مرحلة قمع عنيفة وصادمة في ممارساتها، أدّت إلى مقتل مئات وربما آلاف المعارضين، وسجن عشرات الآلاف، ونفي مئات من أبرز الناشطين والمثقفين.
تمثل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمصر حالياً مناسبةً أخرى لإعادة فهم المعارضة المصرية وقدراتها
في هذه الظروف القاسية، من الظلم مطالبة المعارضة بتقديم الكثير، ولكن عملية المراجعة ضرورية، ولعلّ من أولويات المراجعة امتلاك صورة واقعية عن المعارضة نفسها وإمكاناتها، ونشر تلك الصورة في أوساط المعارضين أنفسهم والمجتمع ذاته. ففي أحيان كثيرة، يمتلك المعارضون أنفسهم صوراً غير واقعية عن أنفسهم، وقدراتهم، وينشرون تلك الصورة الخاطئة وسط أتباعهم ووسط المواطنين، فيعيش المعارض وأنصاره ومراقبوه في سجن من الأفكار غير الدقيقة التي تمنعه من رؤية الواقع والتوصل إلى تقدير حقيقي لقدراته المتواضعة على التغيير.
وبناءً عليه، تمثل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمصر حالياً مناسبةً أخرى لإعادة فهم المعارضة المصرية وقدراتها. ويبدو لي أنها تشير إلى الحقائق التالية: أولاً: المعارضة المصرية ضعيفة لأسباب معروفة ومفهومة، وخطابها يغرق أحياناً في النقد والعموميات، ويفتقر إلى البدائل السياسية والتفاصيل. ثانياً: التركيز على قضايا الهوية والأيديولوجيا هيمن على أوساط واسعة من قوى المعارضة المصرية وعلى الخلافات بينها، ولا يجيب ذلك الخطاب عن أسئلةٍ كثيرة، لأنّه يفتقر مرة أخرى إلى البدائل السياسية والتفاصيل، وربما يحتاج ما تبقى من المعارضة المصرية إعادة التفكير في أسباب التركيز المبالغ فيه على تلك القضايا، وكيف تُمكن موازنته مع قضايا السياسات الدقيقة والمفصلة؟ ثالثاً: افتقار المعارضة إلى الخبراء وعدم تكتلها حول بدائل سياسية واضحة يفقداها القدرة على قراءة الواقع وترشيد خطابها وتشكيل رأي عام واع، والضغط على النظام في اتجاه تحسين سياسته. من دون فهم واضح لمشكلات الاقتصاد المصري، وأخطاء النظام، والمطالبة بحلول سياسية محدّدة ومراقبة سياسات النظام المختلفة، لن يقود خطاب المعارضة المصرية السلبي والواسع والفضفاض إلّا إلى منح النظام المصري مزيداً من الوقت لإصلاح مشكلاته بالطريقة التي ترضيه أو لتعميق مشكلات الاقتصاد المصري ذاته.