المسنّون وقد أضحوا خيالاً صحراوياً
كل الأضواء على الشباب: الشباب غاضب، الشباب عاطلٌ عن العمل، الشباب يتفنّن، يسهر، يقلقه المستقبل، لا يستطيع أن يتزوج، أن يؤسّس عائلة، يفكّر بالهجرة، أو يعدّ نفسه لها، أو ينتظر الفيزا، أو الوظيفة، على أبواب السفارات، أو هاجر وخلاص. والأسئلة والإحصاءات التي تدور حول التحدّيات "الثلاثة" التي يواجهها الشباب اليوم. وليس معروفاً لماذا تكون ثلاثة تحدّيات لا اثنين أو عشرة .. أو ترْداد سؤال آخر: هل تريد أن تهاجر نهائيا من لبنان؟ وهذه عيّنةٌ مما يشغل بال الإعلام والمتحدثين من بعده، الذين ينكبّون على "الشباب" بانتظام مريحٍ يُحسَدون عليه.
على كل حال، حسناً يفعل هؤلاء، لأنهم يحسبون للمستقبل. ولكنهم، بإغفال غيرهم من الفئات التي سوف ينضم إليها أولئك الشباب بعد حين من الدهر، يهملون المستقبل البعيد لهؤلاء الشباب، فهم بعد سنوات، ستمر في لمْح البصر، سيكونون في عِداد المسنّين، إذا لم يرحلوا وهم في عزّ شبابهم (رقم واحد تتداوله الأمم المتحدة: اليوم يشكل المسنّون نسبة 11% من سكان لبنان، وغداً، عام 2035، سترتفع هذه النسبة إلى 14%).
مستقبلُ المستقبلِ عند الشباب هو الشيخوخة، أو التقدّم بالعمر. ومع ذلك، يغيب هذا المستقبل عن كل الأجندات، عن كل الأدوار، عن كل ظهور، عن كل صورة. لا الشاشة الصغيرة تتحمّلهم، هي التي تطرد المذيعات اللواتي بلغن عمر التجاعيد، ولا تستضيفهن إلا للتكلم عن خسارة أبنائهن. ولا نظام الإهمال والمحاصصة يُحيي شيخوختهم، ولا نقابات تتكلم عنهم، أو تجمّعات، مثل التي أنشأها ذوو الاحتياجات الخاصة، أو أهالي المخطوفين، أو أهالي ضحايا انفجار المرفأ.
يجلس بعض المسنين أمام شاشة التلفزيون .. أولادهم في الخارج، مرتاحون من تهريبهم من الجحيم. ولكنهم متحسّرون على غيابهم، محترقون صامتون مكْفهرون.
المواطن المسنّ البسيط مختفٍ تماماً. فقط في أثناء انتفاضة 17 تشرين، ظهر آباء شباب مهاجرين وأمهاتهم، خصوصاً الأمهات. يتكلمون إلى المراسلين، عن لوعة ابتعاد الأبناء، يروون قصص الافتراق عنهم، عن حرقة الشوق إليهم، عن الانقطاع، عن الوحدة والقلق.. بعد هذه الانتفاضة، عاد المسنّون إلى عزلتهم وصمتهم. تبحث عنهم في الصورة، أو الدور، أو المخيّلة، فلا تجد لهم أثراً. وحدها الأماكن المغلقة تجمعهم. المتمكِّنون من بينهم، هم الذين يسكنون دور العجزة، الموزّعة بين الطوائف، وبالغة الكلفة، والتي تعاني اليوم من نقصٍ في كل شيء. أما الباقون، فمكانهم بيوتهم، وحالاتهم مختلفة - متشابهة:
قبل الانهيار، كنتَ تجد مسنّاتٍ ميسوراتٍ يمشين على الرصيف برفقة "جليسات"، وهو الاسم الأنيق، لخادمةٍ خاصة، تعتني بصحة السيدة المسنّة، ورفاهيتها ونظافة بيتها أيضاً، في غياب أولادها المهاجرين، هي مع زوجها، أو بمفردها. ولكن الانهيار الاقتصادي طردَ أولئك العاملات الآتيات من شرق أفريقيا وآسيا. وصرتَ الآن ترى مكاتب خدمٍ تبحث عن "جليساتٍ" لبنانيات، أقل كلفة، يخضعن لـ"دورات"، كما يقول الإعلان، ليتوظَّفن عند مسنّ (ة) عائش بمفرده، أو برفقة زوجته المسنّة. وهذه على كل حال أرخصُ من دور العجزة.
تجدهم بعد ذلك على الكَنَبة. أمامهم شاشة التلفزيون .. أولادهم في الخارج، مرتاحون من تهريبهم من الجحيم. ولكنهم متحسّرون على غيابهم، محترقون صامتون مكْفهرون. وأقل من ذلك كله، إذا كان أولادهم المهاجرون يجيدون عليهم بما يكفيهم لحفظ كرامتهم.
تجدهم أيضا، يسكنون مع أولادهم، أو قريباً منهم. يسعون بما بقي عندهم من قوة ليخرجوهم من البلاد، ليسهلوا عليهم هجرتهم. وهؤلاء، فوق قلقهم على مستقبل أبنائهم، موزّعون بين رغبتهم بإبقائهم إلى جانبهم وتسهيل هروبهم من هذا الجحيم.
وأخيراً، كما يتبيّن من مأساة الغارقين في بحر طرابلس هرباً من الجحيم نفسه أن الجثث التي نجحت النجدة في انتزاعها، كلها من الرجال والنساء الشباب، ومعهم الأطفال. ليس بينهم من مسنّين. فهؤلاء بقوا في البلاد، ويقتصر الآن دورهم الصغير على استقبال جثث أبنائهم وأحفادهم، وتقبّل التعازي، والبكاء المرّ. فيما القلّة القليلة من أولئك المسنين هاجرت مع أولادها. ولاذت بصمت آخر، يشبه الوحشة، وصعوبة التكيّف مع مكان جديد، بعيد وغريب، فداء البقاء بالقرب من الأولاد ..
والذين اشتغلوا طوال حياتهم من بين هؤلاء، وهم من الغالبية، يعرف عنهم أنهم مسنّون، قانونياً، ابتداء من بلوغهم الخامسة والستين من العمر. وهي العتبة التي توصل صاحبها إلى التقاعد. أي المسنّ بالتعريف، هو من أصبح بهذا العمر، فاقتضى ذلك سحبه من سوق العمل، أي "إخراجه" إلى التقاعد، كما تقول العبارة المتَداولة.
استثناء واحد يخالف هذه القاعدة القانونية: رؤساء الجمهورية والبرلمان والأحزاب الحاكمة. وغالبيتهم العظمى تجاوزت الخامسة والستين من العمر، العمر "القانوني"، فيما أقليتهم على أبوابه. ميشال عون: 89 سنة، نبيه برّي 84 سنة، وليد جنبلاط 73 سنة، نجيب ميقاتي 67 سنة، حسن نصر الله 62 سنة، "يتقاعد" بعد ثلاث سنوات، ويكبره نائبه نعيم قاسم، 69 سنة، أي أنه بلغ سنّ التقاعد منذ أربع سنوات.
مستقبلُ المستقبلِ عند الشباب هو الشيخوخة، أو التقدّم بالعمر. ومع ذلك، يغيب هذا المستقبل عن كل الأجندات
طبعاً كلهم ليسوا في هذا الوارد. لا حساب عندهم للعمر. بالعكس، كلما طوّروا "مواهب" بقائهم في الحكم، وارتووا بإكسيره .. طالَ شبابهم، مدعوماً بحُقُنات البوتوكس. فيخطبون يصرّحون ويتداولون ويكَوْلِسون، ويجتمعون يستعرضون عضلاتهم، ويقرّرون .. وإذا وافتهم المنية، يكونون قد أعدّوا ورثتهم، يخلدون بذلك أسماءهم. وكما لا ينطبق عليهم قانون الزيجات بين الطوائف، الممنوعة على اللبنانيين، المسموحة لأبنائهم، فإن قانون التقاعد لا يعنيهم، حتى ولو دامت مواقعهم عشرات السنوات. في المقابل، ينزل هذا القانون كالسيف الحادّ على رقبة المواطن البسيط، بعد الخامسة والستين هذه: ممنوع عليك بعد الآن متابعة أو مراكمة أو تنمية أو الاستفادة .. من كل هذه السنوات التي قضيتها في وظيفتك. أنت ابتداء من اليوم، لا شيء!
وهذا السيف أشدّ وبالاً على النساء. مرّة لأنهن، في هذا العمر، يُتركن لإدارة شؤونهن بأنفسهن .. طالما فعلن ذلك طوال عمرهن وشبابهن. هذا إذا لم يترمّلن، وعملن على خدمة الزوج الذي لم يتعلم طوال عمره كيف يتدبّر أمره، يطبخ وينظِّف ويرتّب. وهن في هذه الحالة أقلّ حظاً من الرجال المتقاعدين. أما إذا عملنَ في وظيفةٍ ما، فإن التقاعد يظلمهن من زاوية أخرى. إذ لم يلحقنَ الانخراط عميقاً في العمل، وتكريس قدراتهن من أجله، أو الحيِّز الأكبر من هذه القدرات، قبل الانتهاء من الوضع ورعاية الأطفال، فبدأن يطوّرن مهاراتهن .. حتى يأتي التقاعد لينزعهن مما بدأن بإتقانه. وجلسنَ على الكَنَبة.
لا نقول هنا إن على المرء أن يشتغل طوال حياته. هذا لو كان خياراً، فالأرجح أنه يقع على أقلية. ولكن هذه الأقلية آخذة بالتزايد، مع امتداد العمر مقارنة بما كان عليه يوم سن قانون التفرّغ. وصرتَ ترى مسنّين، أُحيلوا على التقاعد، غير أنهم مستمرّون به، إما لضائقة مادية متعاظمة، تعرفها البلاد، أو لرغبة، مجرّد رغبة بالاستمرار بالعمل، تعبيراً عن تعلّق ما بالحياة.
يتبيّن من مأساة الغارقين في بحر طرابلس أن الجثث التي نجحت النجدة في انتزاعها كلها من الرجال والنساء الشباب، ومعهم الأطفال
وفي كل الأحوال، المسنّون فئة اجتماعية مهملة تماماً. لا حساب لها في أية خطة، أو برنامج اقتصادي، أو حتى تحريض ديماغوجي. متروكة لمصيرها، محرومة من أي دور، خرساء، تبحث عنها في السراج والفتيلة، مع أنها موجودة، تطبع بعض أحياء العاصمة والقرى بوجودها. والآن، أكثر من أي وقت مضى، تزداد حالتهم صعوبة، فمثلا، ذاك الجانب الصحي الذي يهمّ كل مسنّ، انظر إلى ما حصل له بعد الانهيار: غير الأدوية المفقودة، أو التي تُباع بالدولار، تعطّلت كل أنظمة التغطية الصحية السابقة، والتي كانت أصلاً تشوبها الشوائب. من الضمان الاجتماعي، إلى تعاونية موظفي الدولة، إلى النقابات المهنية، إلى وزارة الصحة (القائمة خدماتها أصلاً على المحسوبية)، إلى شركات التأمين. الجميع مفْلس، وما عاد يؤمّن الحدود الدنيا، فيما الأخيرة، شركات التأمين، المصمّمة على الفوْتَرة بالدولار، تبتزّ المريض، بأن هذه أو تلك من التكاليف لا تدخل في خانة التأمين، مراهنة على قدرة المريض في متابعة جدالها البيزنطي.
هذا ولا نتكلّم عن أشياء أخرى، عن الصحة النفسية، عن السكن، النقل، عن الأرصفة، عن الأندية والروابط، عن الاجتماعيات، عن فرص العمل، عن التدريب على مهن جديدة، عن المشاركة السياسية، عن الخدمات، عن الاستفادة من موارد المسنّين المعنوية والمهنية.
في الأول من شهر سبتمبر/ أيلول، تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي للمسنّين. وأكثر الفئات جدارةً بالاحتفال بهذا اليوم هي الشباب، لو أرادوا، بعد عمر طويل، أن يموتوا بكرامتهم، فاهتموا بمن سَبَقهم إلى الموت.