المرأة والحياة والحرية

27 أكتوبر 2022
+ الخط -

يحمل عنوان هذه المقالة واحداً من أبرز شعارات التظاهرات، التي شملت منذ أزيد من شهر حواضر عديدة في إيران، بسبب حَدَثِ اعتقال الشابة مَهْسَا أميني (22 عاما) ووفاتها، وقد اتّهمت بإخلالها بقواعد اللباس. ونتصوَّر أن هذه التظاهرات، وإن كانت ترتبط في بعض أوجُهها بما ذكرنا، فإنها تعلن، في الوقت نفسه، أن التناقضات الاجتماعية والسياسية القائمة اليوم داخل المجتمع الإيراني تتجاوز الحدث الذي ذكرنا، لتشير إلى اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع. إنها تُؤشّر إلى ميلاد قيم جديدة، مختلفة تماماً عن قيم قواعد اللباس والحجاب، ومُختلف أشكال التمييز بين الرجال والنساء، وبين المواطنين، في مجتمع أكثر من نصف سكانه من النساء، وأغلبية شبابه من الجيل الجديد، الذي تربّى في فضاءات الانفجار المعلوماتي والثورة الرقمية زمن التعولم الكاسح. وهناك مظاهر عديدة في الاحتجاجات المتواصلة تكشف أن المحتجّين كسروا حواجز الخوف لحظات تظاهرهم، حيث عملوا على تمزيق الحجاب والتظاهر برؤوسٍ عاريةٍ وشعر مقصوص. كما حرقوا صور المرشد وتغنّوا بالمرأة والحياة والحرية. ولم ترعبهم كثافة حواجز شرطة الأخلاق، ولا مواقف النظام وطرق مواجهته العنيفة للمتظاهرين، واتهامهم بتنفيذ مؤامرات خارجية.

يعي المحتجّون، وهم في أقصى حالات غضبهم، أن إيران ليست جزيرة معزولة، كما تعي أجهزة النظام الأمنية والإيديولوجية أن شعارات الدولة الإسلامية لم تعد تنال قَبول الشباب الذي يتطلع اليوم بعد شيخوخة الثورة، إلى بناء مجتمع منفتح وأكثر حرية. وهم يعرفون في الوقت نفسه أن إيران تتصوَّر نفسها منذ ما يزيد عن أربعة عقود بؤرة ثورية حاضرة، بأعينها وأذرعها وخطاباتها، في الشرق والغرب، وهي تُعَدُّ اليوم قوة إقليمية فاعلة، ليس لأنها تخترق العراق، وتنظر إليه باعتباره جزءاً من جغرافيتها وتاريخها الثقافي، كما أصبح يتكرر ذلك، في مواقف وخطب كبار مسؤوليها. إضافة إلى أنها تُعَدّ اليوم لاعباً مركزياً في دمشق وبيروت واليمن، وذلك في سياق تداعيات الثورات العربية وما قبلها.. ولا نتردّد في القول إنها تعمل في موضوع سياستها الخارجية على بناء خيارات ومواقف سياسية تتجه فيها نحو الشرق، حيث حَسّنت علاقتها مع روسيا والصين.. وذلك في سياق تعزيز خياراتها في موضوع البرنامج النووي.. كما يعي المحتجون أن الأزمات المتلاحقة التي يعرفها نظامهم السياسي، تتواصل منذ سنوات وبدون انقطاع، بحكم الأدوار والمواقف الصانعة لمآلات ثورتها، مآلات دولة الفقيه، التي عَمِل نظامها السياسي على ترسيخها.

نقرأ معركة الحجاب في الاحتجاجات الجارية باعتبارها معركة مجتمع وثقافة، إنها تعبير عن الغضب الذي يزداد اتساعاً

واجه المرشد الأعلى للجمهورية احتجاجات المتظاهرين، معتبراً أن كل ما يعرفه الاقتصاد الإيراني اليوم من تراجع، سببه العقوبات التي يفرضها الغرب وأن اقتصاد المقاومة، الذي تلتزم به الدولة الإيرانية يُشكّل مدخلاً مناسباً لمقاومةٍ تشمل المجتمع والثقافة والقيم، مقاومة يواجه بها المجتمع الإيراني، حسب تعبيره، الجبروت الغربي. وقد تَمّ ربط الاحتجاجات الجارية بمسلسل التآمر على الجمهورية الإسلامية من طرف من أطلق عليهم المرشد الأعلى أعداء الداخل والخارج، وتَوَعَّدَهم بالمواجهة الصارمة. برز ذلك في حملات القمع الشرسة، التي ترتب عنها قتلى وجرحى من قِوى الأمن ومن المتظاهرين. ولم تكتف أجهزة الأمن بهذا، بل حجبت أيضاً تطبيقاتٍ عديدةً من فضاء التواصل الرقمي، وأوقفت بعض منصّات التواصل الاجتماعي، التي كانت تساعد في عمليات التنسيق بين الشباب الإيراني الغاضب والمحتج.

سجّل المهتمون بتطوّر أنماط الاحتجاج السياسي والاجتماعي في المجتمع الإيراني أن الاحتجاجات الأخيرة تستوعب مجموعات سياسية وفعاليات مدنية من خارج التيارين السياسيين المألوفين في المشهد السياسي الإيراني، الإصلاحي والمحافظ. وقد منح تصدّر الإيرانيات للتظاهرات الجديدة، تعاطف نساء عديداتٍ في العالم أجمع، الأمر الذي لم يكن يحصل بالقوة نفسها في الاحتجاجات السابقة، وخصوصا أن أشكال العنف التي جُوبِه بها المتظاهرون، حيث امتلأتٍ الشوارع بدوريات شرطة الأخلاق، الأمر الذي أجَّج التظاهرات، ودفع المتظاهرين إلى رفع شعارات جمعت بين البعدين الثقافي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ولم يعد من الممكن الفصل بين الحدث المُفَجِّر للاحتجاج وأجهزة الدولة وخياراتها. نتصوّر أن تمزيق النقاب الأسود وتصدُّر النساء التظاهرات، يكشف صوراً جديدة في تاريخ احتجاجات المجتمع الإيراني.. نتبيّن ذلك في الشعارات الرئيسية التي تغنّى بها المتظاهرون، وأبرزها شعار المرأة، الحياة، الحرية، وشعار الموت للديكتاتور، وكذا شعار "لا نريد الجمهورية الإسلامية". وقد فتحت هذه الشعارات جبهة النقاش السياسي على قضايا عديدة، يرتبط بعضها بالجندر، وبعضها الآخر بالأعراق، وكثير منها يرتبط بقضايا الإصلاحين، السياسي والديني، حيث وصل الأمر إلى درجة المطالبة بثورة تُمكِّن من إطاحة رجال الدين.. وتؤشّر هذه الشعارات إلى ميلاد ثقافة جديدة، ويمكن أن تُقْرَأ كإرهاصات أولى لميلاد مشروع ثورة ثقافية وسياسية.

تتجه الدولة إلى فتح جبهات خارجية، وتتخلى مقابل ذلك عن القضايا ذات الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية

نقرأ معركة الحجاب في الاحتجاجات الإيرانية باعتبارها معركة مجتمع وثقافة، إنها تعبيرٌ عن الغضب الذي يزداد اتساعاً في قلب المجتمع، وهو غضبٌ لا تعبر عنه فقط عمليات تمزيق الحجاب، إنه أكبر من ذلك.. إنه غضبٌ نتبيّن ملامحه بجلاء في حركة النساء، وفي حركة مجموع الشباب المشارك فيها، حيث تجري عمليات مواجهة حاشدة لخيارات نظامٍ يواصل قهر النساء والرجال. ومن المؤكّد أن الواقع المحلي والإقليمي لإيران اليوم أكثر تعقيداً مما نتصوَّر، إلا أن معاينة نظام الدولة والمجتمع تُبرز أن مواصلة تمركز السلطة في يد المحافظين أدّى إلى تَشَكُّل نظام سلطوي يضع فيه المحافظون أيديهم على مختلف السلطات في النظام السياسي الإيراني. ومقابل ذلك، يعرف الشارع الإيراني إحباطا كثيرا، تتصاعد نسبة الفقر والبطالة وينتشر الفساد، ترتفع أدوار شرطة الأخلاق، وتوضع القيود المُحاصِرة للحرّيات العامة والخاصة على الشباب.

يساهم تواتر حصول الاحتجاجات في عملية تراكم الغضب داخل المجتمع الإيراني، ويقف دون اهتمامات الإيرانيين وتطلعاتهم، حيث تتّجه الدولة إلى فتح جبهات خارجية، وتتخلى مقابل ذلك عن القضايا ذات الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية. ويبدو للملاحظ أن إيران تعمل على تعزيز مجال سياستها الخارجية أكثر من العمل على حلّ التناقضات والصراعات المتصلة بأحوال المجتمع الإيراني في الداخل.. ولهذا الخيار نتائجه التي يمكن أن نُعاين بعض أوجُهها في أشكال الصراع والاحتجاج كما يعكسها الشارع اليوم.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".