المخاطر والآفاق بعد سقوط ترامب
أحدث سقوط دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية شعوراً عالمياً ومحلياً بالارتياح، فما من رئيس في العصر الحديث أثار هذا القدر من الاستفزاز، وتبنّى سياسات عنصرية، وتطاول على القانون الدولي، وأشاع استقطابات حادّة في المجتمعين، الأميركي والدولي، مثلما فعل ترامب. وما من رئيس في العالم أساء للقضية الفلسطينية، وجعل من إدارته غلافاً وحاضنة لأسوأ مخططات اليمين العنصري الإسرائيلي المتطرّف لتصفية الحقوق الفلسطينية، كما فعل في "صفقة القرن". ولكن ذهاب ترامب ونجاح منافسه جو بايدن لن يعنيا اختفاء الصفقة ومخاطرها على القضية الفلسطينية، لأن صاحبها الحقيقي هو نتنياهو والحركة الصهيونية العنصرية. وقد بدأ نتنياهو وأنصاره محاولة إدخال أفكار "صفقة القرن" وأهدافها إلى الإدارة الديمقراطية الجديدة، كضم المستعمرات الاستيطانية تحت عنوان "تبادل الأراضي".
وإذا كانت إدارة بايدن، كما أعلنت نائبته كاميلا هاريس، ستعيد في واشنطن فتح ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية التي أغلقها ترامب، وستعيد تمويل السلطة الفلسطينية، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فذلك لا يمثل تغييراً جوهرياً، بقدر ما هو عودة إلى ما كان قائماً قبل عصر ترامب من تحالف استراتيجي مع إسرائيل وانحياز كامل لها، بدليل أن بايدن أعلن أنه لن يخرج السفارة الأميركية من القدس، وقد تكرّرت تصريحاته (ونائبته) المؤكدة على دعم إسرائيل وعمليات التطبيع معها، من دون أن نسمع موقفاً صارماً تجاه الاستعمار الاستيطاني المتواصل، والذي يمثل ضماً تدريجياً للأراضي المحتلة وإسفينا ينسف إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. وليس مستبعداً أن يُطالب الفلسطينيون منهما مقابل العودة إلى الماضي بتنازلات جديدة، من منطلق الواقعية، والمرونة، والحاجة لتقبل ما أحدثته إسرائيل من تغييرات على أرض الواقع.
بدأ نتنياهو وأنصاره محاولة إدخال أفكار "صفقة القرن" وأهدافها إلى الإدارة الديمقراطية الجديدة، كضم المستعمرات الاستيطانية تحت عنوان "تبادل الأراضي"
هناك أربعة مخاطر، قد تحملها الفترة المقبلة: أن تتعرّض السلطة الفلسطينية لضغوط لإعادتها إلى دائرة المفاوضات الطويلة بلا نتائج، أي إعادة العربة إلى دائرة عملية السلام بديلا للسلام، وأن تصبح المفاوضات بحد ذاتها هدفاً بديلاً لإنهاء الاحتلال وللحل. أن يستمر الاستيطان خلال المفاوضات من دون رادع سوى بيانات وإدانات لا تسمن ولا تغني من جوع، ما يعني السماح بتواصل عملية ضم تدريجي للأراضي الفلسطينية المحتلة في عهد بايدن بديلا عن الضم الفوري في عهد ترامب. أن تُمارس الضغوط لتعطيل عملية المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية، وجعلها تذبل، بعد أن تباطأت خطواتها مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية. تواصل محاولات إسرائيلية ودولية لإلغاء الصفة السياسية والوطنية للحقوق الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد قضية اقتصادية، وإنسانية، أي مصادرة حق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير، واستبدالها بمجرد تحسين لأحوال المعيشة.
وهذه المخاطر الأربعة هي في الواقع الوجه الآخر "لصفقة القرن". ولذلك لا بد من وضع الإدارة الأميركية ومختلف الدول أمام التحديات التي لا يمكن شطبها، أي المطالبة بموقف واضح يرفض مبدأ الضم المخالف للقانون الدولي، بما في ذلك موقف صريح برفض ضم القدس والجولان المحتل، وأي جزءٍ من الأراضي المحتلة. والمطالبة بموقفٍ لا يكتفي بمعارضة الاستيطان الاستعماري ، بل يمارس ضغوطاً، تملك الإدارة الأميركية والدول الأوروبية الكثير من أدواتها إن أرادت، لوقف الاستيطان بالكامل، فلا معنى للمفاوضات وعملية السلام مع استمرار الاستيطان، لأن المفاوضات، في هذه الحالة، كما جرى طوال الثلاثين عاماً الماضية، ستصبح غطاءً للاستيطان ولعملية تدمير إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. ولا بد من مطالبة المجتمع الدولي، بما في ذلك الإدارة الأميركية، بتأييد حق الفلسطينيين في الوحدة الوطنية، وإجراء انتخاباتٍ ديمقراطية حرّة، وقبول نتائجها، حتى لا نعود إلى محاولات فرض الشروط والإملاءات الإسرائيلية بغلاف أميركي أو دولي.
لا حظ لأي مفاوضات، ما دام ميزان القوى مختلا لغير صالح الفلسطينيين. ولذلك، تقتضي الحكمة أن يتعمق الفهم الفلسطيني بأن المراهنة يجب ألا تكون على بايدن، أو غيره من حكام العالم، بل على ما يستطيع الشعب الفلسطيني أن يفعله بنضاله وكفاحه، وتحالفاته مع قوى الحرية والتغيير في العالم، لتغيير ميزان القوى. ولن يلتفت العالم إلى القضية الفلسطينية، ما لم تتصاعد المقاومة الشعبية الموحدة، وما لم ير العالم قيادة موحدة واستراتيجية موحدة للفلسطينيين.
تقتضي الحكمة أن يتعمّق الفهم الفلسطيني بأن المراهنة يجب ألا تكون على بايدن أو غيره
القوى التقدمية في الحزب الديمقراطي، برئاسة ساندرز وأعضاء الكونغرس ككورتيز وإلهان عمر ورشيدة طليب، كانت من أهم القوى التي ساهمت في إسقاط ترامب، بالإضافة إلى شباب الحزب الذين تظهر استطلاعات الرأي أن 40% منهم أميل إلى تأييد الفلسطينيين، وحركة السود ذوي الأصل الأفريقي والحركات الاجتماعية النسائية والشبابية، والمهاجرين اللاتينيين والمسلمين، وتمثل كل هذه القوى حليفاً محتملاً ومهماً للفلسطينيين، إن تم توسيع الجهود للتواصل معهم، لإيجاد قوة ضغط داخلية في الولايات المتحدة في مواجهة اللوبي الصهيوني. كما أن الأغلبية الديمقراطية الصغيرة في مجلس النواب الأميركي تجبر صانعي السياسة في الحزب الديمقراطي على احترام آراء الجناح التقدّمي فيه.
باختصار، لن يكون طريق الشعب الفلسطيني إلى الخلاص في العودة إلى الماضي والمراهنة على المفاوضات، بل في التقدّم إلى الأمام بتصعيد الكفاح الفلسطيني الموحد، وتطوير تحالفات مع كل قوى التقدّم في العالم، والتمسك بصلابة ومبدئية بالحقوق الوطنية الفلسطينية في الحرية الكاملة.