المحكمة العليا تعيد الولايات المتحدة إلى الوراء

03 يوليو 2022

أميركيون يحتجون قرب الكونغرس في واشنطن على قرار إلغاء حق الإجهاض (30/6/2022/فرانس برس)

+ الخط -

دعونا نتفق على أن الولايات المتحدة هي قائدة العالم في العلوم والتقنيات والرأسمالية. ولكن دعونا نعترف أيضا بأن هذا البلد العظيم اقتصاديا وعلميا وتقنيا هو بلد نامٍ في مجالات كثيرة، منها هيمنة الدين على الفضاء العام، والجهل في القضايا السياسية الكبرى، وبخاصة السياسة الدولية لدى قطاع واسع من الأميركيين، والتخلّف الاجتماعي في أجزاء كبيرة من البلاد، وخصوصا في الوسط والجنوب.

لا يزال أميركيون، بنسبة كبيرة، يرفضون حقيقة هبوط الإنسان على سطح القمر، ويؤمنون بأن أحداث "11 سبتمبر" (2011) في نيويورك وواشنطن كانت مؤامرة من تدبير الحكومة الأميركية نفسها، حيث تخطّط النخب العالمية لتقليص الحريات المدنية من خلال ردّها على الهجمات وتسهيل إنشاء حكومة عالمية استبدادية. ويؤمن بعض الأميركيين جازمين بأن إلفيس بريسلي وروبرت كينيدي على قيد الحياة. وكان حشد قد اجتمع قبل أشهر في تكساس لانتظار عودة المسيح لمباركة الرئيس السابق دونالد ترامب، وعودة جون كينيدي الابن ليكون نائبا للرئيس ترامب في حملته في 2024.

على هذه الأرضية، يمكن للمرء أن يفهم كيف يصل إلى مجلس النواب متهم بالاتجار بالبشر وممارسة الجنس مع قاصرات، مثل النائب مات غيتس، من فلوريدا، أو امرأة تخطئ في الهجاء ولا تعرف أبسط نظريات السياسة، وتستخدم البنادق الآلية بوجود أطفالها قربها. ويمكن أيضا أن يفهم كيف يصل رجل شبه أمي وعنصري، ويمارس الجنس مع مومسات، إلى منصب أقوى رجل في العالم، ويجلس في البيت الأبيض، وراء المكتب الذي سبقه إليه جورج واشنطن وأبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت.

أذهلت الضربة التي وجّهتها المحكمة العليا الناس ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل وفي العالم أيضا

وكما تكونوا يُولّى عليكم. قد لا يكون هذا الحديث بسندٍ صحيح، ولكنّ فيه من الصحة الكثير، فقد عيّن الرئيس ترامب ثلاثة من أصل تسعة أعضاء في المحكمة العليا، وقد اختارهم من أكثر القضاة محافظة، وعل عكس القضاة الكبار الذين ينأوون بأنفسهم عن السياسة والإيديولوجيا، فإن هؤلاء الثلاثة مغرقون في الإيديولوجيا، مؤيدون لتفوّق العرق الأبيض، ولهم موقف متخلّف من المرأة. وبذلك، تمكّن الرجل نصف الأمي من أن يسدّد ضربةً مريعةً للحريات المدنية الأميركية من خلال نقض الحكم القضائي المعرّف باسم "رو ضدّ وايد"، وهو الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا في 1973، بعد سجال طويل ومعمّق، وقرّرت أن التعديل الرابع عشر يحمي الحقّ في الخصوصية، ويقع حق المرأة في اختيار الإجهاض ضمن هذا الحق. وكانت نتيجة ذلك أن النساء بتنَ يتمتّعن في الولايات المتّحدة بما تتمتّع به النساء في مختلف الدول الديمقراطية، أي الحق في الإجهاض قبل أن يصبح فيه الجنين قادرا على العيش خارج الرحم.

أذهلت الضربة التي وجّهتها المحكمة العليا الناس ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل وفي العالم أيضا. وفي حالاتٍ غير مسبوقة، استنكر عديدون من أقرب أصدقاء أميركا القرار علنا بما يكفي لإلقاء ظلال على رحلة الرئيس بايدن إلى قمة مجموعة السبع في ألمانيا. ووصف رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وهو أول كاثوليكي يشغل هذا المنصب، الأمر بأنه "خطوة كبيرة إلى الوراء"، وأعلن أن "من الواضح أنه سيخلّف آثارا هائلة على تفكير الناس في جميع أنحاء العالم. إنه قرار خطير للغاية". وغرّد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأن الحكم "مروّع"، وأضاف، بدون مجاملة ولا مراعاة للدبلوماسية، إنه "هجوم على حرية المرأة، وبصراحة تامة، هجوم على حريات الجميع وحقوقهم". بينما أكّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "الإجهاض حقّ أساسي لجميع النساء، ولا بدّ من حمايته". وردّا على ذلك، تتّجه فرنسا نحو جعل الوصول إلى الإجهاض حقا دستوريا موثّقا، وفقا لوكالة فرانس برس. ولم يتوانَ رئيس وزراء بلد صغير كبلجيكا عن اللحاق بالركب، حين عبّر عن أسفه "للإشارة التي ترسلها (المحكمة العليا) إلى العالم"، وتعهّد بأن تواصل بلاده العمل مع البلدان الأخرى لتعزيز الحقوق والصحة الإنجابية الجنسية.

اثنان من كلّ ثلاثة أميركيين يفضّلون الإبقاء على سابقة "رو ضدّ وايد"، ويؤيدون حقّ المرأة في التعامل مع جسدها

وقد تكون لدى الحلفاء أسبابٌ تدعو إلى القلق، فمع توقع سيطرة الجمهوريين على الكونغرس بعد انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وترشّح ترامب نفسه، أو سياسي آخر مقولب على صورته، للرئاسة في عام 2024 واحتمال فوزه، لا يستطيع أحدٌ أن يلوم قادة العالم الحرّ على الحديث بصوت عالٍ. في غضون ذلك، صوت البرلمان الألماني، أخيرا، لإلغاء قانون يعود إلى الحقبة النازية، يقول إن الأطباء الذين يعلنون عن عمليات إجهاض، أو يقدّمون معلومات عنها، قد يواجهون عقوبة بالسجن تصل إلى عامين أو دفع غرامة.

وعلى الرغم من كلّ ما في قرار الحكمة العليا من إجحاف وتقديم للأيديولوجيا على القانون، فإن مربط الفرس قد يكون في مكان آخر. أغلب الظن أن تقليص حقّ النساء في الإجهاض ليس سوى مقدّمة لتقييد حقوق مدنية أخرى، استطاع الأميركيون تحقيقها من خلال صراع مرير تتوّج بحركة الحقوق المدنية في الستينيات. ولم يخفِ القاضي كليرانس توماس توقه الشديد لإعادة النظر في السوابق القضائية، مثل تنظيم الأسرة والزواج من الجنس نفسه، وحتى الحرية في ممارسة الجنس مع أفراد من الجنس ذاته. ولن يقف الأمر هنا، فهم في الجوهر يريدون تقليص الحرّيات السياسية وحصرها في أيدي نخبةٍ من الرجال البيض اليمينيين. والحال أن أعضاء المحكمة العليا يشعرون بأنهم في ملعبهم، وحين حاول رئيس المحكمة القاضي روبرتس (محافظ) تخفيف حدّة الحكم الجديد وعدم تعميمه، رفض القضاة الخمسة الآخرون المغرقون في المحافظة رأيه. يشكّل هؤلاء القضاة الأغلبية، وهم مستعدّون الآن لإعادة تشكيل المجتمع والثقافة الأميركيين.

تقليص حقّ النساء في الإجهاض مقدّمة لتقييد حقوق مدنية استطاع الأميركيون تحقيقها في صراع مرير تتوّج بحركة الحقوق المدنية

أربعة من قضاة المحكمة العليا كذبوا، ببساطة، للوصول إلى قوس المحكمة، فكلّ واحد من هؤلاء الأربعة أكّد، خلال استجوابه في مجلس الشيوخ، أن "رو ضدّ وايد" سابقة، وأنه لا ينوي المساس بها. ومع ذلك، لم يتوانَ أي منهم أن يبلع لسانه، ويصوّت على القرار الجديد من دون أن يشعروا بأي خجل. ولا يغيّر من الحال شيئا أن القضاة الخمسة يقفون في وجه غالبية الأميركيين، فاثنان من كلّ ثلاثة أميركيين يفضّلون الإبقاء على سابقة "رو ضدّ وايد"، ويؤيدون حقّ المرأة في التعامل مع جسدها. ولا يبالي القضاة في حقيقة أن صورة المحكمة العليا قد اهتزّت، حيث أفادت استطلاعات جديدة أجرتها مؤسسة غالوب بأن 25% فقط يقولون الآن إن لديهم "قدرا عاليا" أو "عاليا جدّا" من الثقة في المحكمة العليا. وهذا هو أدنى مستوى منذ 50 عاما.

يقول بعضهم إن قرار المحكمة سيعود بأميركا إلى ما قبل "رو ضدّ وايد"، ولكن هذا الكلام غير دقيق، فمستقبل أميركا سيكون أسوأ من ماضيها قبل خمسين سنة، حيث غدا الآن من حق الدولة مراقبة النساء الحوامل وتجريمهن في حال إسقاط أجنّتهن، ولكن صار حقّها أيضا أن تلاحق الأطباء والصيادلة والعاملين في العيادات والمتطوّعين والأصدقاء وأفراد الأسرة أنفسهم، وأي شخص آخر يمكن أن يساعد في إنهاء الحمل. أولئك الذين يجادلون بأن هذا القرار لن يغيّر الأشياء كثيرًا إنما يتجاهلون أنه ليس سوى سلسلة في جهود الشعبويين الأميركيين إعادة أميركا إلى عصور الظلام.

تشْبه أميركا الآن أكثر ما تشبه أميركا ما قبل الحرب الأهلية. في تلك المرحلة، انقسمت أميركا إلى ولايات تؤيد العبودية وأخرى ترفضها، اليوم هي منقسمة مع ولايات تقرّ الإجهاض والحقوق الأخرى للنساء والرجال وأخرى تقيّدها، فعسى أن يجد الأميركيون حلا سوى الحلّ الذي وجدوه قبل مائة وستين سنة.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح