اللبناني و"متلازمة الاحتجاز"

13 اغسطس 2022

محتجز الرهائن بسام شيخ حسين في بنك فيدرال في بيروت

+ الخط -

ليست المرّة الأولى التي يُقدم فيها اللبناني على احتجاز موظفين وزبائن في فروع المصارف اللبنانية المنتشرة على وسع الوطن، فبعد حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019، وبداية الانهيار الكبير، واعتماد جمعية المصارف على إعلان التوقف عن تقديم الخدمات المصرفية لزبائنها، والحجز على الأموال المودعة لديها، والمودع متروك في حيرة من أمره، ووصل إلى حدّ اليأس بأنّ جنى عمره ذهب مع الرياح، ولن يستطيع الحصول عليه، إلّا من خلال تعاميم كان يُصدرها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تحت أرقام 151، و158 و161، فقد شعر المودع بأنّها نوع من السطو على أمواله بطريقة مشرعنة، ويكفلها القانون.

في هذا السياق، شهدت منطقة الحمراء في بيروت، إقدام مواطن على احتجاز عملاء وموظفين داخل فرع "بنك فيدرال" فرع عبد العزيز في شارع الحمراء، بقوة السلاح، مثيراً حالة من الذعر والبلبلة داخل المصرف وخارجه. وفي التفاصيل، دخل شخص مسلح طالب بتسليمه أمواله التي تبلغ 210 آلاف دولار، وهو يحمل سلاحاً حربياً ومادة البنزين، مهدّداً بإشعال نفسه وقتل من في الفرع، كما شهر السلاح في وجه مدير الفرع.

باستثناء الحادثة التي حصلت عام 1973 في ستوكهولم، حيث تعاطف الرهائن مع الخاطف، وأطلق على هذه الحالة اسم "متلازمة ستوكهولم" بعدما سطا لصوص على بنك كريديتبانكين في العاصمة السويدية، واتخذوا من موظفي البنك والعملاء رهائن ستة أيام، بدأ من خلالها الرهائن يرتبطون عاطفياً مع الجناة، ودافعوا عنهم بعد إطلاق سراحهم، فإنّها أمام أي اعتداء مسلح، تقف الجماهير موقف التي تدين الجناة، والحاقدة عليها مهما كانت أعذارهم، إذ تنهال الدعوات المطالبة بمعاقبتهم أشدّ العقاب، بسبب الأذى النفسي والجسدي أحياناً الذي يسبّبه الجناة للمخطوفين. بينما في لبنان، يفاجأ المتابع، بسيل المواقف الداعمة للخاطف، إلى درجة أنّ مودعين كثيرين حضروا فعلاً إلى شارع الحمراء دعمًا للمحتجز، ورفضاً لاعتقاله، لأنهم يعتبرون أن ما قام به هو ما يجب أن يفعله كلّ مودع حجزت أمواله ورفضت الدولة ومصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف إعادتها لأصحابها.

 يشعر اللبناني بأنه محتجز في سجن كبير اسمه لبنان

غياب شبه تام لدور الدولة في قضية الودائع وغيرها من القضايا، إذ بات اللبناني يشعر كأنّه يعيش في "فوضى هيستيرية" تدفع الفرد إلى تحصيل حقوقه بقوة السلاح. فلا ثقة في القطاع المصرفي، الذي تآمر على المودعين وحجز الأموال، بينما بالمقابل، سمح لكبار المودعين تهريبها إلى الخارج.

كما أنّ اللاثقة رافقت المواطن بحق الجسم القضائي، الذي يعيش مسرحياتٍ تؤكّد التدخلات السياسية في هذا الجسم، فمن قضية انفجار المرفأ وتعطيل التحقيق، عبر المطالبة بتنحّي القاضي طارق البيطار، بسبب اتهام بعضهم له بأنه يعمل على تسييس الموضوع لاتهام حزب الله ومن حوله في التفجير، وصولاً إلى الكرّ والفرّ بين المدعية العامة لجبل لبنان، غادة عون، التي يحسبها بعضهم على عهد رئيس الجمهورية، وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، المدعوم من رؤساء سياسيين ودينيين، حيث لم يتمّ توقيفه، رغم دعاوى قضائية دولية ومحلية بحقه.

يعيش اللبناني حالة من "العصفورية"، فهي العبارة التي شبّه بها رئيس الحكومة المستقيل، نجيب ميقاتي، حالة لبنان الذي يتخبطّ بأزمات على كل الصعد، إضافة إلى ممارسة مسؤوليه الكيدية السياسية والتعطيل بحق بعضهم بعضا. وقد جاءت عبارة ميقاتي بعد عبارة الوصول إلى "جهنم"، جواب رئيس البلاد ميشال عون عند سؤاله إلى أين ذاهب لبنان؟

اللعب بأرزاق الناس وجنى أعمارهم والتعاطي مع المودعين بطريقة المحتجز على أموالهم، ستدفع إلى تكرار حادثة الحمراء

بين العصفورية وجهنم، يعيش اللبناني "متلازمة الاحتجاز"، إذ بات يشعر بأنه محتجز في سجن كبير اسمه لبنان. يعاني من احتجازه المتعمّد في "طوابير الذل" بحثًا عن ربطة خبز أو تنكة بنزين أو علبة دواء أو حتى الوصول إلى راتبه أو وديعته من المصارف. محجتز ذلك اللبناني في بلاده، إذ حتى لا يمكنه الحصول على جواز سفر إلا بعد تقديم طلب على المنصة المخصصة لتقديم الطلبات من الأمن العام، والتي يحتاج أشهرا كي يأتي دوره فيها، ويحق له الاستحصال على الجواز، لمغادرة البلد. لهذا اعتمدت شريحة واسعة من اللبنانيين على طريقة الهجرة غير الشرعية، علّها تستطيع التخلص من هذه المتلازمة التي لا تنفكّ تلاحقها في كلّ تفاصيل حياتها.

يبدو أن لبنان يكاد يكون الدولة الوحيدة التي تضمّ جمعية تعرف بـ "جمعية المودعين"، التي أنشئت بهدف المطالبة بالإفراج عن ودائع الناس. ما يدلّ على مرحلة اليأس التي وصل إليها اللبناني في الحصول على أدنى حقوقه من دولة توافقت مع القطاع المصرفي لتنفيذ عملية "البونزي" بحقهم.

أخيرًا، أمام الاحتجاز الكبير الذي يعاني منه اللبناني، ومهما تعدّدت الروايات وكثرت التخمينات في حادثة الحمراء، الحقيقة واحدة لا بدّ من التوقف عندها، أنّ اللعب بأرزاق الناس وجنى أعمارهم والتعاطي مع المودعين بطريقة المحتجز على أموالهم، ستدفع إلى تكرار حادثة الحمراء، إذ سيلجأ اللبناني إلى العنف لكسر حالة الاحتجاز والخروج من المتلازمة التي وضعته فيها السلطة الحاكمة.

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب