الكوميديا السوداء داخل "غيتو" الرعب السوري
عازفاً على وتر "التنويم والتوجيه"، يبدو أنّ المنحة المالية التي أصدرها بشار الأسد بمناسبة عيد الفطر لن تكون آخر نغمات "العنف الرمزي" المندرج تحت مسمّى الكوميديا السورية السوداء. ذلك أنّ الواقع المأزوم جعل من المنحة الاستفزازية موضع تندّر وسخرية بين السوريين، وهي، بطبيعة الحال، لا تغطّي كلفة طبخة "عادية" على مائدة رمضان. هذا يدفع كاتبة هذه المقالة، بالضرورة، إلى تناول موضوع الصمت القهري، في عمقه "البسيكو - سوسيولوجي"، كعامل انفعال وتفاعل داخل حاضنةٍ ترضى بالفتات وتلوك رغيف القهر المشبع بغصّات الذل بفمٍ مُطبق. خوف يخاطب أعمق الحاجات وأخطرها، وهي غريزة البقاء، فبضعة تصريحات مخدّرة أو عطيّات "مسيّلة للدموع" تجعل "الموالي" يتشبّث بالوضع الراهن، وخصوصا أنّ اللعبة السياسية، ومنذ عقود خمسة، غير بريئة من التورّط في هندسة المخيال العام للقضاء على روحية المواطنة وأخلاقياتها الإنسانية في مختلف الساحات. معلومٌ للجميع أنّ مجالَ نشاط متلازمة "الخوف الجمعي" فسيحٌ جداً لكل جماعة مؤلفة من مركّبات ذهنية معقّدة، مهووسة برؤيتها المشوّهة تجاه فكرة المشاركة والاندماج. هكذا يغدو التعصّبُ مصيدةً ناعمة تعيق كل محاولات دمقْرطة الحياة السياسية، بحكم كونه تداعيات تجارب أليمة وفاشلة في مواجهة إكراهات الواقع وتحدياته.
اتساع رقعة الخوف "الأقلوي" المدمر، والذي يعبّر عن حالة الهلع النفسي الارتدادي، الناتج عن سوء هضم المظلوميات والوقوف على مقاصدها الحقيقية، يأخذني حكماً باتجاه الحديث عن تلك الأقلية المثيرة للجدل، علويّي سورية، الذين ما زالوا يتلقون سياط جلّادهم بصمتٍ مريب كأبرز الوسائل الدفاعية لمواجهة قلقهم الوجودي، الذي أصبح مُمأسَساً ومستبطناً ذهنياً، ومخرجاته مطبوعةٌ في مختلف السيماء الاجتماعية للجماعة "المضطهدة" تاريخياً. في المقابل، ووسط ظلام سرمدي لا حدود له، المتشرّب ثقافة "البزنسة" السياسية و"براديغم" الطاعة، ينصبّ اهتمام الأسد اليوم على النجاة المحضة، وهو الجالس كـ"آغا" لا شريك له على عرش "مزرعةٍ منسيةٍ"، يحيطها المتربّحون الذين غدوا سلطاتٍ مطلقةً بحكم الأمر الواقع، لا تجافي حقيقة أنّ "الاستبداد ملح الخائفين". على التوازي، تعتبر علاقة العلويين مع نظام الأسد جدلية متداخلة وتبادلية، تبدأ من مظلوميةٍ تاريخيةٍ مزمنة، وتمر بإعادة تعريف الجماعة انطلاقاً من إدراجها ضمن مؤسسات الدولة وجهازَي الأمن والجيش، وتصل إلى التهديد الوجودي على وقع الثورة وما تبعها من حربٍ أهلية. أي كلما تعقدت الشراكة اختلفت تجلياتها وفقاً للشرط التاريخي الذي يحكمها.
تمثيل الأسد العلويين وعلاقتهم به مرتبط بمسار تاريخي، يفسّر التصاق الطائفة بـ"جلّادها" أكثر كلما مارس القمع وغالى فيه
وبالعودة إلى أسّ المشكلة وأساسها، اعتمد حافظ الأسد، ومنذ البداية، استراتيجية "البرمجة الطائفية" باعتبارها طقس عبور مقدّس لانضمام الشباب العلوي إلى قوات النظام الجديد وأجهزة أمنه. تدريجياً، تغيّرت الوظيفة السياسية "للتلقين الأعمى"، بعدما غدت محدّداً إثنياً تطور جزئياً ردّاً على تطرّف بعض حركات المعارضة الإسلامية المتمرّدة. ولا شك نقد التصوّر الكلاسيكي لعلاقة الطائفة العلوية بممثلها، بوصفها علاقة قسرية، يمكن أن يتبلور أكثر، إذ تتداخل هذه العلاقة مع تطوّرات جمّة حكمت تاريخ سورية الحديث، منذ استقلال البلاد وحقبة الانقلابات والديمقراطية الهجينة، مروراً بسطوة "البعث" فالأسدية الدكتاتورية، وصولاً إلى الثورة والحرب الأهلية. ما يعني أنّ تمثيل الأسد العلويين وعلاقتهم به مرتبط بمسار تاريخي، يفسّر التصاق الطائفة بـ"جلّادها" أكثر كلما مارس القمع وغالى فيه، ولا سيّما في الحروب الأهلية، حيث التهديد الوجودي هو المحدّد الأساس للمزاج العام داخلها. "القامع" هو المدافع عن الجماعة، حتى لو كان قمعه موجّهاً ضد الجماعة نفسها، والذي يغدو محموداً، كونه يأتي لتنقيتها وتصليبها ضد الخصم.
قد يكون الإقرار بما سبق المدخل لفكّ علاقة الطرفين بعضهما ببعض، أما الاسترخاء لمسلمّات من قبيل إنّ نظام الأسد يحتمي بالعلويين ويستغلهم فهذا لن يساهم سوى بتعزيز وحدتهما، في ظلّ غيابٍ مقصودٍ للحوار المفتوح عن التفاعلات الطائفية ممّن طرشونا بالخطابات الرنّانة عن الفسيفساء السورية الفريدة، فتحقّقت أهدافهم أخيراً في تمزيق أحشاء البلاد. هكذا دخل العلوي في حقل ألغامٍ شديد الخطورة من الوهن العقلي، مرتدياً عباءة "العبودية المقنّعة"، التي تحوّلت إلى أكبر بازار سياسي متخصّص في هندسة المؤامرات مسبقة الصنع، لضمان استئساد نظام التفرقة، والتعامل مع السوريين ككتلٍ متذرّرة من القطعان البشرية المخدّرة. فعلياً زاد من إيقاع تطرّف الطائفة العلوية العزفُ على نغمةِ اندلاع "ويلاتٍ مذهبية" وتصديق هذه التنبؤات الخادعة، وهي ليست بالضرورة حتمية كارثية. والدليل أن الثورات العربية لم تشهد أيّ بعد طائفي، رغم لعب القيادات المتنحية أو الهاربة بالخيوط الطائفية والقبلية. خذ مثالاً: عندما انفجرت أحداث يناير في مصر بعد وقت قصير من صداماتٍ دمويةٍ بين أقباط ومسلمين، واتخاذ البابا شنودة، وهو رأس الكنيسة المصرية، موقفاً مؤيداً للرئيس حسني مبارك. رغم ذلك، وبعد تنحّي الأخير عن منصبه لم نسمع عن حادثة طائفية واحدة، ولو من باب الانتقام.
الخلاص الوحيد للطائفة الحاضنة للاستبداد هو في تجاوز قلقها الوجودي "سياسياً" وإخراجها من "غيتو" الرعب الذي تقبع فيه
أكّد الباحث ليون غولد سميث، في كتابه "دائرة الخوف: العلويون السوريون في الحرب والسلم" (ترجمة عامر شيخوني، الدار العربية للعلوم "ناشرون"، 2016)، أنّ نظام الأسد ليس علوياً، بل هو نظام نخبة براغماتية قادرة على استنساخ نفسها، وعلى إثارة الهواجس الوجودية عند الطائفة لتكون كريمة في إجرامها، عبر تعزيز "العصبية العلوية" التي يشتدّ صمودها بسبب الخوف الطائفي التاريخي. ولا أحسب أيّ سوريّ بالغ لا يذكر يوم مات حافظ الأسد، أو كما قال رياض الترك "مات الديكتاتور"، ودفع ثمن هذه العبارة سنين إضافية في المعتقل. أريد تذكّر هذا الحدث المفصلي من ناحية دلالية خطرة أهملها كثيرون، وهي هرب العلويين "الهلعين" من دمشق إلى قراهم أفواجاً، وما أخفته من حتمية وقوع كوارث ظهرت فعلاً بعد عقد على وفاة مستبدٍّ نجح في التلاعب بذكاء، منقطع النظير، على وتر الطائفية، عبر إظهار أنّ الادّعاءات الإسلامية بالشرعية والدولاتية مزيفة واستتباعية، ووراء هذه الواجهة يكمن مشروع إقامة دولةٍ عرقية قومية متحيّزة. وتشكّل هذه الرؤية الرجعية واحدةً من النتائج، المأساوية للغاية، لخيار العنف المُفرط الذي انتهجه النظام إبّان الثورة السورية، ولجهوده الحثيثة في حشد التضامن الطائفي للدفاع عن سيطرته الهشّة على السلطة.
التحليل السياسي الأكاديمي المحايد لفهم ذهنية الطائفة العلوية وعلاقتها مع باقي المسلمين، واستقراء حالة "التوحّش الأعمى" كإحدى تجليات غياب العقلانية وضعف الولاء للدولة، يُظهر أنّ الخلاص الوحيد للطائفة الحاضنة للاستبداد هو في تجاوز قلقها الوجودي "سياسياً" وإخراجها من "غيتو" الرعب الذي تقبع فيه، وهذا ما لا تُسعف فيه ممارساتٌ خطابيةٌ ترى العلويين كائناتٍ عابرةً للأزمنة، وحيث مآلاتها المفتوحة فقط نحو مصالحاتٍ طائفيةٍ أو نظام "توافقي" يحوّل الطوائف إلى "شعوب"، على ما صار يُقال في لبنان فعلاً.
قصارى القول، من الواضح حسابياً أنّ الشائعات أدّت إلى بروز سرديات دعائية مليئة بالمبالغات، تقبّلها السوريون وردّدوها ببغائياً، بلا تفحّص ولا مساءلة نقدية واعية، عملت على تثبيت الأوهام عن العلويين باختصارهم "جميعاً"، بالطائفة المدلّلة المسيطرة، والتي، بدورها، لم تمانع هذه الادّعاءات التي ناسبت المزاج العام، على أساس "صيت غنى ولا صيت فقر". وعليه، لم يتغير شيء: ما زال العلويون أدوات مجرّدة تخدم مزرعة الاضطهاد نفسها، لكن بأسماء جديدة. هم القادمون من قرى فقيرة تغصّ بذاكرة قهرٍ مريرة، يرون اليوم أنّ لمعان النجوم على أكتاف أولادهم أكثر من كافٍ لهم.