القوة الناعمة للظلامية في بلاد الأنوار
اشتعلت باريس بأعمال الشغب إثر خسارة المغرب أمام فرنسا في المباراة نصف النهائية لمونديال كرة القدم في قطر. لم يكن بين المشاغبين عرب من الضواحي، كما يمكن أن يتصوَّر بعضهم. إنما شبابٌ بالمئات، من الفرنسيين "الأصليين"، ذوي العرق والأجداد الفرنسيَين. اعتقلت الشرطة حوالي الثلاثمئة منهم، بعدما وجدت في حقائب الظهر التي يحملونها أسلحة بيضاء، من خناجر وسكاكين جيب وهراوات إلكترونية ويدوية، وقنابل دخانية وأخرى مسيلة للدموع، وأقنعة وقفازات عسكرية .. إلخ. كثيرون من بينهم أصحاب سوابق، وغالبيتهم ينتمي إلى "بيئة" اليمين المتطرّف، أحزاب صغيرة ومجموعات مَلَكية أو معادية للجمهورية من أساسها. وجميعهم كانوا يستعدّون لمهاجمة الفرنسيين العرب، في هذه المناسبة التي سوف يخرجون بها إلى الشوارع، بحسب تقارير الشرطة.
ولا عجب من ذلك، فاليمين الفرنسي المتطرّف ليس يتيماً، ولا مستجدّاً. في الانتخابات الرئاسية في الربيع الماضي، نالت مرشّحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، ما يوازي نصف أصوات الناخبين في الدورة الثانية، أي أن أقل بقليل من ثلاثة عشر مليون فرنسي صوّتوا لها. ورافقها في الدورة الأولى من هذه الانتخابات "مفكّر" يمين اليمين المتطرّف إريك زيمور. والاثنان صبّا حملاتهما على المهاجرين العرب.
نظرية "الاستبدال الكبير" رائجة وراسخة في بيئة اليمين المتطرّف، ولكن التفرّعات التي يبتدعها الروائي ميشال أوَلْبيك تذهب بها بعيداً
ولا تقتصر هذه القوة "السياسية" التي يتمتّع بها اليمين المتطرّف على أحزاب سياسية، أو "مفكّرين" متسَلِّقين. ولا على سلاح، إلا الأبيض منه. إنما ثمّة قوة ناعمة، أخّاذة، حاضرة في الإعلام والأدب، ففي وقت كانت فيه الشرطة الفرنسية تعتقل أولئك الشباب المتأهبين للاعتداء على مواطنيهم "غير الأصليين"، صدرَ عددٌ خاص لمجلة "الجبهة الشعبية" التي يرأسها الفيلسوف ميشال أونفري الذي يصف نفسه بـ"اليساري الاشتراكي"، و"الشعبوي" صراحةً. وخلاصة فكرته: نهاية إرث الأنوار والنهضة الأوروبيَين، الهوَس بـ"سقوط المسيحية"، وبخسارة الهوية الفرنسية. ولسان حاله يقول للعرب والمسلمين: "لنا أنوارنا، ولكم شريعتكم". أما موضوع العدد الخاص في المجلة، فهو بأكلمه للحوار بين هذا الفيلسوف وسميّه، الروائي والشاعر الأبرز، ميشال أُوَلْبيك، صاحب القوة اليمينية المتطرّفة الأكثر سَلاسَة من أية قوة أخرى. هو الروائي الفرنسي الحيّ الأكثر قراءة، الأكثر ترجمة (40 لغة)، الأكثر انتشاراً على الشاشة (أنتج أربعة أفلام، لعبَ دور البطولة في تسعة أفلام، كتب سيناريو ستة أفلام)، الأكثر تشويقاً واستفزازاً في مقابلاته الصحافية. في جميع رواياته، التي قاربت العشرة، خلفية، علنية وشبه علنية، يمكنك اعتبارها نواةً لمتفرّعات عنها. اسم هذه النواة "الاستبدال الكبير"، وتعني أن لدى العرب المسلمين خطة جهنمية، أن ينقلوا المهاجرين إلى فرنسا، "يفرْنسونهم"، ويزداد عددهم، فيُستبدلون بالسكان الأصليين، أحفاد الأرض الفرنسية "التاريخية". ولنظرية "الاستبدال الكبير" صاحب، هو الكاتب رينيه كامو. ولها مروّج "سياسي"، هو إريك زيمور المذكور آنفاً، اعتمدها شعاراً في حملته. ومارين لوبان تلمّح إليه. أي أن النظرية رائجة وراسخة في بيئة اليمين المتطرّف، ولكن التفرّعات التي يبتدعها الروائي ميشال أوَلْبيك تذهب بها بعيداً.
يكره الروائي كل تعبيرات الحداثة. الكنيسة الكاثوليكية تنال من أسهمه، يأخذ عليها "ميوعتها" تجاه "الضربات الحداثية". يكره المثْليين، والإجهاض والموت الرحيم والحمل عن الغير... وكل هذا ليس بالشيء الفظيع إذا ما قورن بما تبثّه رواياته من كراهية للمهاجرين المسلمين وللنساء. نظرية "الاستبدال الكبير" هي بخدمة كراهيته للمسلمين. وكراهيته الحداثة بخدمة كراهيته نساء العصر. لا شيء يحدّ هاتين الكراهيتَين غير مؤخّرة المراهقات. عدا ذلك، هو بالغ القسوة مع نساء أصِبن بعيوبٍ جسدية مع الشيخوخة، نساء مستقلات يعملن، يتقْنَ إلى الحرية... يحلم بـ"العودة إلى النظام البطريركي"، كما يقول، حيث كانت النساء ممنوعاتٍ من الخروج، عاملات من الصباح إلى المساء في الطبخ ... يحترم بائعات الهوى، ومهنتهن "التي تدرّ عليهن الكثير" .. إلخ.
تحوّل نظرية تفوّق العرق الأبيض (سوبْريماتيزم) إلى تيار جارف في الولايات المتحدة"، أي الشعار نفسه الذي خاض به دونالد ترامب معركته الانتخابية
في العدد الحواري بينه وبين ميشال أونفري، يكرّر ميشال أُوَلْبيك نظرية "الاستبدال الكبير"، وإن الخطر الأساسي الذي يهدّد بتدمير فرنسا هو الفرنسيون المسلمون، فيلاحظ أن "الناس بدأت تتسلّح" ("الناس" هنا هم الفرنسيون "الأصليون")، وأن هناك "أعمال مقاومة" (لاحظ معنى "مقاومة" هنا)، وأن هؤلاء الناس يصوّبون "نحو المساجد"، و"نحو المقاهي التي يرتادها المسلمون". ويعبّر عن أمله بأن "يتوقف الآن المسلمون عن سرقتنا وعن الاعتداء علينا". ومسمار المقابلة برمّتها: "فرصتنا الوحيدة للبقاء على قيد الحياة (نحن الفرنسيين)، هو تحوّل نظرية تفوّق العرق الأبيض (سوبْريماتيزم) إلى تيار جارف في الولايات المتحدة"، أي الشعار نفسه الذي خاض به دونالد ترامب معركته الانتخابية، وما زال.
في إحدى أهم رواياته، وعنوانها "خضوع"، الصادرة عام 2015، يتوقع ميشال أُوَلْبيك أن يصعد، بعد خمسة أعوام، إلى رئاسة الجمهورية، رئيس حزب إسلامي يقيم الشريعة. البطل - الراوي، وهو فرنسي "أصلي"، حائر بأمره. صديقه المسلم يشرح له فوائد الإسلام. في ظل الرئيس الإسلامي الجديد، استطاع هذا الصديق الستيني أن يتزوج مراهِقة عمرها 15 عاماً، وأن يبقي على زوجته الأولى، للخدمة... يقرأ البطل كتيّباً يمدّه به صديقه، فيؤسْلم، ويقرّر الزواج من ثلاث مراهقات دفعة واحدة.
للرئيس ماكرون برنامج انتخابي في ما يخص النساء والمهاجرين، يقف على نقيض ما يحمله أُوَلْبيك في رواياته وتصريحاته وأفلامه
بعد سنة وقليل على صدور هذه الرواية، قلّد الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون ميشال أوَلْبيك وسام الاستحقاق الفرنسي من رتبة فارس. أين العجب؟ للرئيس الفرنسي برنامج انتخابي في ما يخص النساء والمهاجرين، يقف على نقيض ما يحمله أُوَلْبيك في رواياته وتصريحاته وأفلامه. فهل تخلّى الرئيس الفرنسي عن برنامجه، أم أنه انزاح نحو مجد فرنسا الزائل، أم أنه يساير القاعدة العريضة لقرّاء أُوَلْبيك في فرنسا وفي أوروبا وأميركا، أولئك الذين سحروا بأسلوبه البسيط وصراحته البورنوغرافية المرتدية ثياب الحمل، أم أنه يستجيب لأفكار عميقة في دواخلهم وخوارجهم، لا يستطيع، حتى رئيس الجمهورية، غير أن يداريها؟
قد يقول قائل: هذا روائي، وهو حرّ باختراع الشخصيات والحبكات التي يدرّها عليه خياله. ولكن ميشال أُوَلْبيك ليس كأي روائي. رواياته أيديولوجية، ولكنها جذّابة، وهو يتبنّى أفكار أبطاله الرواة. هويتهم هي هويته، هويته الفنية هي هويته الشخصية، لكل فصولها تفسيرٌ مسبق، "لم يمزّق الستارة المنصوبة بينه وبين العالم"، كما يقول الروائي التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا، في كتابه النقدي "الستارة" عن الرواية الأوروبية. ومعياره هو ميغيل دي سرْفانتيس، صاحب "دون كيشوت"، مؤسس الرواية الأوروبية، فهل يكون سرْفانتيس ابن عصر النهوض الأوروبي، وأُوَلْبيك ابن قعوده؟