القمع في فلسطين وفداحة الأضرار

28 يونيو 2021
+ الخط -

قبل اتفاقية أوسلو، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية؛ أيام الاحتلال المباشر، كان الفلسطينيون يستبعدون تمامًا أن تتلبَّس أيُّ سلطة منهم، أو دولة مستقبلية لهم، في حالة القمع والظلم الذي كنّا نشهدها من نظُمٍ عربية مشهورة ومتمرِّسة بهما، لكن الوقائع التالية أثبتت خطأ تلك التوقُّعات أو الآمال.
ولسنا في حاجة إلى سرد سجِل السلطة الفلسطينية في حالات القمع، وقد تكون المفارقة أنَّ السبب في تلك الآمال هو الباعث على نفيها؛ بمعنى أن كون السلطة الفلسطينية ما هي إلا جهاز مؤقَّت، (في مرحلة انتقالية، طالت، حتى كادت تتأبّد)، هو الذي يبدو السبب، ليس في زيادة التلاحُم مع شعبها الذي هو رأس مالها، ولكن في تقديم الدلائل على قدرتها على حُكْمه، والسيطرة عليه؛ لكي تحظى باستحقاق الانتقال إلى صفة "الدولة"، كما يُفهم من تصفية المعارض الفلسطيني، نزار بنات. وهناك جملة من الأضرار التي لا تنحصر في السلطة، بل تتجاوزها إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، التي هي قضية عدالة وحرية، في الدرجة الأولى.
من أول تلك الأضرار المقارنة بينها وبين سلطات الاحتلال، أو دولة الاحتلال التي لا تنقصها الوقاحة؛ لكي تتبجَّح بأساليبها في التعامل مع الفلسطينيين؛ بأنها أقل قسوة، من تعامل سلطة الفلسطينيين أنفسهم، علمًا بأنها الأكثر تدميرًا لحياة الفلسطينيين، وهي تعمل على ذلك وَفْق منهجية ثابتة، واستراتيجيات متواصلة، وشاملة، منذ عقود. وذلك بمحاصرة أسباب الوجود الفلسطيني، ماديًّا، بالاستيطان والتهويد، ومعنويًّا، بإجهاض كلِّ المساعي نحو الخلاص من الاحتلال.

الحلْقة الجديدة من التعاطي القمعي مرشَّحة للتوسُّع، كما ظهر ذلك في تعامل قوَّات أمن السلطة مع الاحتجاجات في بعض مدن الضفة الغربية

الضرر الأكبر من حادثة الاغتيال الأسبوع الماضي لعلَّه ينعكس على صورة السلطة الفلسطينية؛ من كيان يمثِّل الفلسطينيين جميعًا، ويدافع عنهم فيما يُفترَض، بوصفها المنبثقة من منظمة التحرير، إلى كيانٍ لا يمثِّل إلا فئة ضيِّقة، مستميتة في الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها؛ لا يسمح طغيانُها للفلسطينيين بالإحساس بالمشترَكات الوطنية بينها وبينهم، لتغدو، في نظر أكثر الفلسطينيين، كيانًا منعزلًا، فوقيًّا، وعِدائيّا أحيانًا. وهنا لا مفرّ من استحضار قول طرفة بن العبد "وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مَضاضةً/ على النَّفْسِ من وقْعِ الحُسام المُهَنَّدِ". وليس المعنى هنا، فقط، أنك تُصاب بمقادير أكبر من الخذلان، حين يكون ظالمُك وقامعُك مِن أهلك الذين تنتمي لهم، وتؤمِّل فيهم، ولكن أنك مظلومٌ حتى من أقاربك، وأهلك، وأنك لم تقدر أن تدفع عن نفسك، حتى ظلم الذين لا يُفترَض أن يتفوَّقوا عليك، أو يقهروك؛ فمقدار الشعور بالهوان أكبر، والإيلام أكبر، والتبخيس اللاحق بك أكثر استفزازًا، أو إحباطًا.
على الصعيد النضالي، لا يقلّ الضرر عن سابقاته، ففضلًا عن أن هذه الشرارة الشِّريرة المتمثِّلة في أسلوب التعاطي مع بعض أنواع المعارضة السياسية، بالتصفية الجسدية، خارج نطاق القانون، يُلحِق ضررًا بالسلطة نفسها؛ لأن فيه تجاهلًا للسلطة نفسها، ووظيفتها المأمولة، وتجاوزًا لمعايير خصوصيتها؛ بوصفها كيانًا تنفيذيًا يخضع لما هو أعلى من ردّات الفعل الانفعالية والثأرية، وغير البعيدة عن الأبعاد الشخصية، فوق ذلك فإنه يحرم الفلسطينيين من وضوح الرؤية والتصوُّرات؛ إذ لا تعود الصورة حاسمة: شعب محتل، وكيان عنصري يحتلّ، ويعتدي، إذ الشعب نفسه سيكون مرتبكًا إزاء أبنائه الذين ينتمون إلى أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، بين انتماءين؛ انتماؤهم إليه، وإلى نسيجه الاجتماعي، وبين انتمائهم إلى كيان السلطة، بتلك العقلية غير المضمونة، تُجاه الشعب، وتُجاه أبنائه، غير المشكَّك في نزاهتهم الوطنية.
هذه الحلْقة من التعاطي القمعي مرشَّحة للتوسُّع، كما ظهر ذلك في تعامل قوَّات أمن السلطة مع الاحتجاجات في بعض مدن الضفة الغربية، كما حدث في رام الله، مثلًا، من ضرب للمتظاهرين، وإلقاء قنابل الغاز المسيِّل للدموع تُجاههم، من دون أن يواتي السلطة الصبر، أو حتى استيعاب هذه الغضبة الشعبية الطبيعية.

بينما الحالة النضالية الفلسطينية في صعود وعنفوان، يأتي حدث تصفية نزار بنات ليحاول العكس، والهبوط

قد يكون المدُّ القمعي في المنطقة العربية أغرى السلطة، أو جهات متنفِّذة فيها، على سلوك المسلك ذاته، كما حدث في مصر، في مجزرة ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013، وفي سجونها من تعذيب وحشي للمعارضين السياسيين، وأصحاب الرأي. وكما حدث، ويحدث في سورية، في سنوات ثورة السوريين، وقبلها. وكما يحدث في العراق، من قتل للمحتجِّين، في شوارع المدن العراقية المحرومة، في الأغلب، من أبسط الحقوق المعيشية. وحتى قد يغري السلطة بالقمع، ما تشهده دول العالم الأول، وفي مقدمتها أميركا، من اعتداءات عنصرية، تقع من أفراد الأمن، مع الفارق الكبير بين تلك الحوادث الفردية في أميركا، والملاحقة قضائيًّا، ومثيلاتها في دول عربية، تضيع فيها القضايا الإنسانية، أو تُضيَّع. قد يكون هذا المدُّ القمعي أغرى السلطة، أو جهاتٍ متنفذة فيها بسلوك هذا المسلك. لكن لا بد ألا تنسى تلك الجهات خصوصية الحدث الفلسطيني، فمقتل فلسطيني واحد، سواء على يد الاحتلال، أو على يدٍ داخلية، يُحدث من الانتباه العالمي، والعربي، أكبر من نظائره في غيرها، لخصوصية الصراع فيها، ولخصوصية تداعياتها على أمن المنطقة، ككل، لحساسية فلسطين، السليبة، والتي يحسّ أكثر العرب بأن جرحها هو جرحهم الأعمق، ولكون الطرف الصِّراعي فيها هي إسرائيل، بوصفها مشروعًا استعماريًّا غربيًّا، في الدرجة الأولى، ولقدرة هذا الصراع على إدخال العالم العربي والإسلامي كلِّه في حمأة هذا الصراع، في أيٍّ من مراحله الحسَّاسة، كما ظهر في المواجهة العسكرية أخيرًا بين فصائل المقاومة في غزة والاحتلال، وكما أحدثت المَشاهدُ الآتية من المسجد الأقصى، ومن حيِّ الشيخ جرَّاح، المهدَّدة منازلٌ فيه بالإخلاء، وسكَّانها بالطرد؛ فالحدث الفلسطيني يصعب أن تُقارَن تداعياته بغيره.
وبينما الحالة النضالية الفلسطينية في صعود وعنفوان، يأتي هذا الحدث التصفوي ليحاول العكس، والهبوط. ولذلك هو صدمة، لا بدَّ أن تراكم تحوُّلاتٍ شعبية ونخبوية في النظرة إلى السلطة الفلسطينية؛ وهو منعطفٌ؛ إما إلى الانقطاع التام عن الشعب والعزلة أو إلى التدارُك الحقيقي والجِدِّي، والحفاظ على الحدّ الأدنى من ضرورات اللامواجهة الداخلية.

الكاتب أسامة عثمان
الكاتب أسامة عثمان
أسامة عثمان
كاتب فلسطيني
أسامة عثمان