القدس وسؤال المرجعية
لم يُفاجأ محافظ القدس، التابع للحكومة الفلسطينية، عدنان غيث، وعائلته، عندما أقدمت قوات من المحتل الإسرائيلي على اعتقاله من بيته، فهذه المرّة الـ17 التي يتم اعتقال ممثل رئيس دولة فلسطين من دون أي سبب أو مسوغ قانوني. جاء الاعتقال من منزله في حي سلوان المقدسي عشية عقد زواج كريمته، الأمر الذي لم يتم أخذه بالحسبان لدى المحتل، ثم تم إطلاق سراحه بعد ظهر يوم زفاف ابنته، فاستطاع أن يودّعها وزوجها بعد تأكيده للجميع أنّ القدس والأقصى أهم من أي أمر آخر.
لم تكن قضية اعتقال المحافظ متعلقة بشخصه، بل كانت مرتبطة بمنصبه ممثلاً للرئيس الفلسطيني، علماً أنّ محافظة القدس تشمل مناطق تحت السلطة المباشرة الإسرائيلية، وهناك قرى خارج مسؤولية الاحتلال، تقع تحت مسؤولية الحكومة الفلسطينية. لكنّ استمرار الاعتقالات لدى ممثلي الرئيس ووزير القدس ومفتي القدس والديار المقدسة وغيرهم من القادة طرح سؤالا داخليا لدى مهتمين عديدين بالشأن المقدسي عن المرجعية التي يمكن للمقدسي اللجوء لها... وقد أثار السؤال صعوبة الإجابة لدى مجموعة مغلقة من القادة المقدسيين، فعلى الرغم من وجود عشرات المرجعيات السياسية والشعبية والدينية، ومن وجود جيل شاب مليء بالعنفوان والطاقة والشعور الوطني الصادق، فإنّه لا مرجعية تُذكر يمكن للمواطن المقدسي اللجوء لها أو الاهتمام بمواقفها. الأهم من ذلك وجود مرجعيات قريبة من الناس، وذات فعالية، في معالجة المشكلات الوطنية واليومية الاقتصادية والسكنية والتعليمية والفنية والرياضية، إضافة إلى مشكلات ملكية الأراضي والبيوت والتغول على الضعفاء، بسبب غياب أي جهة تنفيذية قوية في القدس الشرقية، ففي خضم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصاً بعد التوقيع على اتفاقية المبادئ الإسرائيلية - الفلسطينية (أوسلو)، تم استثناء فلسطينيي القدس، فتم ترحيل موضوع القدس إلى مفاوضات الحل الدائم من دون أن يتم تحديد مصير الـ330 ألف مقدسي، وأصبحوا في السنوات 28 السابقة أيتاماً سياسيين.
ليس الوضع المقدسي مرتبطاً فقط بالميزانيات، فهناك شعورٌ للمقدسيين أنه يتم الاستفادة من وضعهم لأسباب سياسية
لفترة وجيزة، كان المرحوم فيصل الحسيني (وبيت الشرق) يمثل شكلاً من أشكال المرجعية، لكن بعد وفاته، وإغلاق إسرائيل بيت الشرق والغرفة التجارية (عبر أوامر طوارئ تجدّد كلّ ستة أشهر أوتوماتيكياً) فقد المقدسيون أيّ مرجعية. وتحاول منظمة التحرير الفلسطينية (والحكومة الفلسطينية) ملء هذا الفراغ، إلا أنّ دورها أصبح هامشياً، نظراً إلى الرفض الإسرائيلي المطلق أيّ دور للقيادة الفلسطينية في رام الله، فيما يقول بعضهم إنّ القيادة توفر دعماً لفظياً وفتاتاً من الميزانية. فعلى الرغم من أنّ نسبة سكان القدس تصل إلى أكثر من 10% من سكان الضفة، لا يُصرف أي مبلغ قريب من ذلك، وقد احتدم النقاش في هذا الموضوع أخيراً، عندما عرض تاجر مقدسي وضعه المادي الصعب أمام رئيس الوزراء محمد اشتية، وكان الرد من اشتية أنّ "فلسطين ليست دولة نفطية" وميزانيتها محدودة.
ليس الوضع المقدسي مرتبطاً فقط بالميزانيات، فهناك شعورٌ للمقدسيين أنه يتم الاستفادة من وضعهم لأسباب سياسية، في حين لا تشكل القدس أولوية حقيقية لدى القيادة الفلسطينية، أو حتى الفصائل المختلفة المنضوية تحت منظمة التحرير، أو حتى الحركات الإسلامية.
يرغب الجانب الإسرائيلي في تخلّي المقدسيين عن قيادتهم الشرعية، ويعرض كلّ الإغراءات
موضوع المرجعية التي ينادي بها المقدسيون مُعقد، فمن ناحيةٍ هناك فرص عديدة للتجمّع الذاتي والعمل السياسي، بشرط عدم ارتباط ذلك بالقيادة أو الحكومة الفلسطينية، في حين أنّ عدم الارتباط بالمنظمة وإعطاء البيعة والولاء الدائم للقيادة يعتبر من أشكال الخيانة السياسية، والتي يرفضها الجميع، إذ يصر الجميع على تمثيل المنظمة لهم، على الرغم من كلّ سيئاتها وغياب آلية حقيقية لفرز قياداتٍ وطنيةٍ منتخبة.
يرغب الجانب الإسرائيلي طبعا في تخلّي المقدسيين عن قيادتهم الشرعية، ويعرض كلّ الإغراءات، ابتداءً من حقهم في المشاركة في الانتخابات البلدية للقدس الموحدة، وهو ما رفضه المقدسيون منذ عام 1967، وإمكانية دعم إسرائيل مشاريع تعليمية وتجارية وغيرها، لكن بشرط تقديم الولاء (بصورة مباشرة أو حتى غير مباشرة) لإسرائيل. وما يزيد الطين بلة أنّ قيادات عديدة تقدّم ضريبة لفظية للمواقف الوطنية، وتصرّ على مقاطعة إسرائيل، تتواصل في ساعات الليل مع المحتل، لترتيب أوضاعها المعيشية، الأمر الذي ينتج ازدواجية في الولاء، يعرفها الجميع، لكن يتم التغاضي عنها.
تشكل مدينة القدس عقدة من عدة مستويات، ويتطلب حلّ هذه العقدة الصراحة وغياب الرياء والواقعية النسبية، أي الواقعية التي تحاول التعامل مع الواقع من دون القبول به. وفي غياب مثل هذا التجمع الصادق، تستمر المرجعيات المختلفة في ادّعاء أنّها هي الأساس، لكنّ الكلّ يعرف أنّ قادتها تجار كلام لا أكثر.