القدس في هذا النقاش
تنقّلت في الأسبوع الماضي من بيت لحم ورام الله إلى القدس عبر المواصلات العامة. وقد شكا أحد الركاب الذين جلست بجانبهم من سوء الأوضاع في القدس، مكرّراً أن المقدسيين أصبحوا أيتاماً للسياسيين. كما شكا لي زميل صحافي في القدس من أن نقابة الصحافيين الفلسطينية التي تأسّست في القدس لم تعد هيئتها الإدارية تضم صحافياً واحداً من القدس. وقال لي راكبٌ كفيفٌ جلست جنبه إنه غير مقتنع بدور السلطة الوطنية الفلسطينية، وأنه أصبح من مؤيدي حل الدولة الواحدة، وقد عبر عن ذلك بطريقته الخاصة بالقول إن دولة العدو الصهيوني أرحم علينا، نحن ذوي الإعاقة، من سلطتنا الوطنية. وكان يعلق على سؤالي بشأن الإعفاء الذي وفّرته شركة الحافلات المرخّصة في إسرائيل، والتي توفّر تنقلاً مجانياً لهم.
جعلني ما طرحه لي هذا الراكب أفكّر في موضوع يتردّد منذ مدة من أقرباء وأصحاب ومفكّرين مؤيدين لحلٍّ مبني على التساوي في الحقوق في دولة واحدة (وهي على فكرة أساس الميثاق الوطني الفلسطيني الذي دعا إلى دولة علمانية ديمقراطية). ورغم أنني من غير المقتنعين بالفكرة بسبب غياب آلية لإقناع الطرف الآخر بقبولها، فإن النقاش أخذني إلى طرح سؤالٍ آمل أن يردّ عليه دعاة الحل الواحد، في ما يخصّ موضوع إيجاد آلية لتحريك مشكلة القدس والمقدسيين التي تراجعت كثيراً في العقود الأخيرة، نتيجة سياسة إسرائيل لعزلها عن محيطها الفلسطيني.
لم تجد المخاطر الحياتية التي تضرّ المقدسيين ردّاً، ولو في حده الأدنى، من أي من القوى الوطنية والإسلامية. مدارس المقدسيين مهدّدة، والمقدسيون بحاجة ماسّة إلى حل في موضوع الإسكان، وذلك كله بدون وجود سوى كلمات الدعم والاستنكار وتأكيد عروبة القدس. فعندما تناقش مؤيدي الحل الواحد يطرحون أفكاراً جميلة وأهدافاً وردية تحلّ مشكلة حق العودة، وتعيد النقاش الفلسطيني للدولة ما بين النهر والبحر، وغيرها من الأفكار الجميلة، ولكن ذلك كله بدون توضيح موضوع واحد، وهو من هو الطرف الآخر في هذه المعادلة؟ وهل هناك شروط لمن سيجري السماح لهم بالعيش في هذه الدولة؟ فمشكلة الدولة الديمقراطية العلمانية في ميثاق منظمة التحرير كانت ولا تزال، أي من اليهود الموجودين على أرض فلسطين اليوم سيُسمح لهم بالبقاء في هذه الدولة الديمقراطية لو تمّت؟
لكل حامل هوية مقدسية الحق في الانتخابات البلدية، والتي ستجري في الخريف المقبل
على أي حال، في غياب توضيح الموقف من كل هذه الأسئلة، تجري نقاشات وهمسات لبعضٍ يعتقدون بأنه آن الأوان لكي يشارك المقدسيون في انتخابات بلدية القدس، فهناك من يقول إن الانتخابات البلدية في أي دولة تحت الاحتلال، أو ضمن نزاع، تعتبر انتخابات خدمات، ولا تُطبّق فكرة الاعتراف السياسي عليها، عكس الانتخابات السياسية العامة. ولكن الطرف الآخر يرفض ذلك، بسبب ضم إسرائيل غير الشرعي القدس الشرقية، والتي كانت ولا تزال مصنفة دولياً منطقة محتلة. لذلك يرفض التيار الوطني ضرورة استمرار مقاطعة تلك الانتخابات، حتى لا تجري شرعنة الضم. وهذا كلام صحيح قد ينطبق على القيادة الوطنية ومؤيدي حلّ الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. ويشمل موقف القيادة الفلسطينية أيضاً موقفاً غير واضح، حيث تقول إنها غير معنية بتقسيم القدس كما كانت قبل 1967، وأنه من الضروري أن تكون القدس مدينة مفتوحة لأتباع الأديان جميعهم لممارسة شعائرهم الدينية.
لو كنتُ من دعاة حل الدولة الواحدة، وأنا ليس كذلك، لكنت قد طالبتُ وناضلتُ من أجل مشاركة المقدسيين، والذين قد يصل عددهم إلى 40% من سكان القدس بشقّيها، أي إنه لنقول "حزب القدس الشريف" قد يكون أكبر حزبٍ وقد يحصل على رئاسة البلدية. وسيوفر ذلك إمكانية السيطرة على ميزانيتها السنوية، والتي تصل إلى 18 مليار دولار سنوياً.
لكل حامل هوية مقدسية الحق في الانتخابات البلدية، والتي ستجري في الخريف المقبل. اقترح أحدهم أنه بالتحالف مع جماعة ناطوري كارتا الدينية المعارضة للصهيونية، والتي تسكن في القدس الغربية (حي مائة شريم) أو مع حزب ميرتس، فإن القائمة المقدسية قد تحصل على الأغلبية في أعضاء المجلس البلدي المشكّل من 31 ممثلاً عن القدس بشقّيها. ينطبق السؤال نفسه على مؤيدي المقاطعة، والتي يؤيد عدد كبير من قادتها دعم فكرة حلّ الدولة الواحدة؟
تتجاوز حالة أهل القدس الخطوط الحمراء الخطرة هذه الأيام مع مخطّطات اليمين المتطرّف زيادة الاستيطان في القدس الشرقية
يقول الراغبون بالمشاركة إن المطلوب لمن يرغب بالمشاركة فقط قرار سياسي، أو على الأقل حماية سياسية. وهناك من يقول إن تجربة فلسطينيي 48 أثبتت عقم الفكرة، ففي المدن المختلطة، مثل حيفا ويافا واللد وعكّا، فإن المحاولات لتغيير السياسات العنصرية لم تتأثر بوجود أعضاء مجالس بلدية. ولا يصل عدد الفلسطينيين في تلك المدن إلى نسبة سكان القدس الشرقية والذين يزيد عددهم عن 350 ألفاً (قد تكون نسبة غير المصوتين من بين الأطفال واليافعين أقل من 18 سنة كبيرة). والمعروف أن هذه ليست أول مرّة يجري فيها التفكير في هذا الاتجاه (رغم إصراري أني غير مؤيد لفكرة حل الدولة الواحدة)، ولكن من الضروري طرح الموضوع للنقاش الجادّ والصريح من دون شيطنة أو إلقاء التهم بالخيانة أو التطبيع. وتتجاوز حالة أهل القدس الخطوط الحمراء الخطرة هذه الأيام مع مخطّطات اليمين المتطرّف زيادة الاستيطان في القدس الشرقية، وتوفير الميزانيات لهم، في حين جرى إلغاء أي زيادة في ميزانيات المقدسين العرب، رغم أنهم دافعوا ضريبة لدولة إسرائيل وضريبة البلدية.
القيادة الفلسطينية في رام الله، وكل فصائل منظمة التحرير، وقيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي، كلهم مطالبون بوضع خطّة محكمة ومنطقية لمعالجة المشكلات اليومية في القدس، والتي تُضعف الهدف المتفق عليه فلسطينياً، وهو أن الجميع يريد القدس عاصمة الدولة العتيدة. والمعروف في السياسة أن الفراغ تملؤه أحياناً أطراف غير مرغوب بها. هناك ضرورة ملحّة للقيام بحلقات نقاش هادئة وهادفة للوصول إلى استراتيجية وطنية لموضوع العاصمة الفلسطينية، بعيداً عن التشنج والتخوين، وبهدف رفع شأن القدس وأهلها وحمايتهم من الأخطار المقبلة.