القائد السياسي يجب أن يوفر نتائج لشعبه
منذ انضمّ إلى الثورة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، كان من المتعارف عليه أن محمود عبّاس رجل سياسة وفكر، وليس فدائياً ثائراً. لذلك، كانت مهامه فكرية وسياسية، ومنها البحث عن الإمكانات لفتح حوار مع القوى السياسية اليهودية والإسرائيلية والعالمية. وقد أدار المفاوضات السرّية مع الجانب الإسرائيلي التي أدّت إلى اتفاقية المبادئ المشهورة باتفاق أوسلو، وقام بتوقيعها في البيت الأبيض، هو ومحاوره آنذاك، وزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز.
ومع عودة القادة وبداية عمل السلطة الوطنية الفلسطينية، كان من المتعارف عليه أن فترة الثورة والمقاومة قد انتهت، وأن فترة السياسة والمفاوضات هي التي ستكون محور عمل منظمة التحرير، إلا أن الأمور سارت عكس التوقعات، وقامت القوى الإسلامية بعمليات تفجير، كان هدفها تخريب مسار أوسلو، كما اغتال متطرّف يهودي إسحق رابين، وأصبح مسار المفاوضات متعثراً، على الرغم من عودته بصورة غير مكتملة مع إيهود باراك ومع إيهود أولمرت.
المطلوب فلسطينيا واضح. العودة إلى العمل الثوري والمقاوم بأيٍّ من الأشكال المتفق عليها
لكن القيادات الفلسطينية لم تكن مستعدّةً للتغييرات على الأرض. وعلى الرغم من اندلاع الانتفاضة الثانية وصواريخ غزة، إلا أن مسار قطار المفاوضات والعمل السياسي كان قد انطلق، ولم تكن هناك الأدوات والمقومات الضرورية لعمل مقاوم مسلح، ولم يكن هناك الفكر ووحدة الشعب الضرورية لإنجاح أعمال المقاومة الشعبية اللاعنفية. وأدى عدم القدرة الفلسطينية على إيجاد مسار تحرّر ناجع، وكذا تمزيق الشعب الفلسطيني بين شطرين وبين فصيلين، إلى غياب استراتيجية عملية للتحرير وانهيار قدرة الجانب الفلسطيني للتأثير بمسار الأمور، فتضاعف ثلاث مرّات عدد المستوطنات والمستوطنين، وأصبح الجانب الفلسطيني تحت رحمة الاحتلال، لا يستطيع القيام بأي عمل إيجابي، بما في ذلك المطالبة بتطبيق اتفاقيات موقعة مع الجانب الإسرائيلي. وعلى الرغم من الضعف الفلسطيني، لم يتغير الخطاب الفلسطيني، الذي فهم المحتل أنه غير جاد، وكان الإسرائيليون على دراية بضعف الموقف الفلسطيني.
المطلوب إذاً واضح. العودة إلى العمل الثوري والمقاوم بأيٍّ من الأشكال المتفق عليها، وهذا يتطلب أولاً وحدة وطنية، وثانياً استعداداً شعبياً للتضحية، لأن الطرف الآخر لن يقبلها دون ردود عنيفة. أما الفرصة الثانية، فهي العمل السياسي الهادف إلى بناء مقومات الدولة، من خلال تغيير تدريجي لموازين القوى. وقد عمل رئيس الوزراء السابق، سلام فياض، على هذا المسار، لكن القيادة الفلسطينية لم تستطع تقبّل أفكاره الخلاقة، والمعتمدة على مبدأ أن السياسة فن الممكن.
ضياع الوقت الآن في المطالبة بأمور لن تُنفَّذ، فذلك إضاعة وقت رئيسٍ اهتمامه بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني قليل
المطلوب هو التوافق على مسار، والعمل بصورة جادّة لتحقيق أهدافه. من الصعب جداً، إن لم نقل إنه مستحيل، للرجل السياسي ذي "البدلة والكرافتة" أن يصبح فجأة ثائراً. وما دام أبو مازن رئيساً وقائداً عاماً، فمن الضروري أن يقوّي المكتسبات الممكنة في المسار السياسي. فعند قدوم الرئيس الأميركي جو بايدن بعد أيام إلى رام الله، قد يكون مناسباً أن يحصر الرئيس أبو مازن مطالبه بأمور يمكن تطبيقها بصورة سريعة. على سبيل المثال، وقف هدم البيت، وإعادة فتح الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة والإصرار على حضور شرطي فلسطيني على جسر الملك حسين. وهذه الأمور واردة في اتفاق أوسلو الذي جرى توقيعه برعاية واشنطن، ورئيس أميركي ديمقراطي آنذاك (بيل كلينتون) شاهدٌ عليه.
الإصرار على تطبيق آمن وإيجاد آلية مراقبة دولية لضمان تطبيق إسرائيل كل بنود اتفاق أوسلو سيوفران مكتسبات حقيقية يمكن البناء عليها، للوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة. أما ضياع الوقت الآن في المطالبة بأمور لن تُنفَّذ، فذلك إضاعة وقت رئيسٍ اهتمامه بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني قليل (سوى دعم إسرائيل). المطالبة المحدّدة، التي يجب أن تشمل حملة شعبية وإعلامية ستوفر فرص نجاح أكثر من الحديث الآن عن دولة مستقلة وعاصمتها القدس. المدة التي سيكون فيها الرئيس الأميركي مهتماً بمساعدة الجانب الفلسطيني ستكون قصيرة، ومن الأفضل الاستفادة منها في أمور حيوية ومفيدة للشعب الفلسطيني، بعيداً عن الرموز والشعارات. إلا إذا كان الرئيس مستعدّاً للعمل الثوري المقاوم، لكن التهديد غير مقنع بأمر يعرف الطرف الآخر أنه غير جدّي، وسيكون مضيعة للوقت ودون أي فائدة. وغير هذا المسار أو ذاك، من المطلوب من أي رئيس أن يعطي فرصة للآخرين، ممن قد يكون لديهم برنامج واستراتيجية وقدرة على قيادة الشعب لها.