14 نوفمبر 2024
الفلسطينيون مستقبل السوريين
مسيرة أهالي غزة في الذكرى السبعين للنكبة كانت حدثاً؛ مثل كمين نُصِب للتاريخ اليومي، أُخرج فيه الوقت عن مساره المرسوم. مسيرة لزيارة الماضي، البعيد والقريب: عن القريب، تشي المسيرة بأن "الحلّين" النقيضين، السلام أو السلاح، لم يُجديا. لم يعيدا أرضاً ولا حقوقاً ولا تقرير مصير. أما عن البعيد، فهي، أي مسيرة العودة، تنْبش في "النكبة" الشهيرة، عندما طُرد الأجداد من حقولهم، وطنهم، وتحولوا إلى لاجئين؛ أو "النكْسة" (أو "الهزيمة")، الأحدث منها، التي فتحت على إسرائيل مزيدا من الأبواب على بقايا أرض فلسطين.
المسيرة، بذلك، تذكّر العالم أجمع، بأن الفلسطينيين ما زالوا معلَّقي المصير، بين سجنَي الشتات والاحتلال. مسيرة تدفع التاريخ دفعاً، بقوة روحها، نحو يوتوبيا العودة وحقوق أصحابها. بها يزور أهل غزة التاريخ، يحفرون بين جنباته، يستعيدون السؤال: أين بدأ طردنا من أرضنا؟ متى؟ كيف؟ بأي سياقات، بأي ظروف؟ يزورون التاريخ، يحيونه، يحتفلون بمأساته، لينقذوا المستقبل. ينصبون الماضي ليبنوا المستقبل. ويفهمونا بذلك أن الأوقات لا تنفصل، إلا في حال النسيان، في حال انقطاع الذاكرة عن مواردها الحيوية؛ الماضي البعيد والقريب هنا يختلطان. وجلّه ما كان يفضي إلى غير بؤرة العذاب هذه، التي اسمها شريط غزة. وأهاليه يقولون، بصوت أرواحهم القربانية هذه إنهم هزموا، نعم، لكنهم لم يموتوا، بدليل تضحيتهم، وهم عزّل، بهذه الأرواح. بأنهم هزموا، نعم، ولا حاجة إلى دلائل، ولا خطب، لكنهم لم ينسحبوا من الحياة، ويذووا؛ لم يذبلوا، بعد كل هذه السنوات من القتل والطرد والإذلال. أهالي غزة خلقوا الحدث، وأعطوا للعالم الذي يصغي إليهم فرصة ليقيس الأحداث الأخرى، الجارية في التوقيت نفسه.
ثلاثة أحداث موازية لمسيرة العودة فضحت نفسها بنفسها: افتتاح السفارة الأميركية في القدس. والتي أصبغت على وجوه المحتفلين بها وهندامهم سيماء الجبروت الأرعن، الكسول، الجاهل أو الناكر؛ خصوصاً لذاك الماضي الذي تحييه المسيرة. الحفل تقلص حجمه كحدث، مع المسيرة. بدا وكأنه يكمل، غير سائل، منحى المزيد من السرقة للأراضي، المزيد من القتل.. كانت الخطابات المحتفلة بافتتاح السفارة تُلقى جنباً إلى جنب مع الرصاصات المصوَّبة إلى صدور الغزيّين.
على الخشبة نفسها، كان وزير الخارجية الإيراني يعبر المحيطات، من الصين إلى روسيا إلى أوروبا، بروكسل، يجهد من أجل إنقاذ الاتفاق النووي المبْرم بينه وبين "الكبار"، وقد ألغاه ترامب، بالتزامن تقريباً مع قرار الأخير نقل السفارة الأميركية إلى القدس. لا يبدو الأميركيون هنا محتكرين للشرّ والمكر.. الإيرانيون أيضاً، بالنظر إلى مليشياتهم المذهبية العاملة في منطقتنا، لم يحرِّموا على أنفسهم معصية من معاصي الدجل الفلسطيني التي باتت معروفة باسم "المتاجَرة بقضية فلسطين". وهم بذلك على كل حال لم يخترعوا شيئاً. هم فقط يتابعون مسيرة أنظمتنا المتسترة بورقة التوت الفلسطينية، المزايدة منها أو المتواطئة، أو بالأحرى المزايدة والمتواطئة معاً.. حفاظاً، أيضاً، على شرعية لم تعُد شرعية. ربما من مصادفات التاريخ القصير أن تتزامن مسيرة العودة لأهالي غزة مع استبْسال الإيرانيين للحفاظ على الاتفاق النووي بينهم وبين "الأسرة الدولية". هم في واد، وفلسطين التي استنزفوا طاقاتها التحشيدية في واد آخر.. هذا خبث التاريخ، عندما يتفوَّق على لاعبي الكشاتْبين، على الفالحين في لعبة الشطرنج. انشغل الإيرانيون بإنقاذ نوويهم، غابوا عن القضية التي يدينون لها برفعهم إلى أعلى السماوات، فحلّ الأتراك مكانهم، وتحوّل الرئيس التركي أردوغان إلى أحمدي نجاد ثان، يبحر في المزايدة، الذكية دوماً، المثْمرة أبداً.
على الخشبة أيضاً حدث ثالث، قلّما لفتَ النظر لشدّة تعقّده: إذ يطاول فلسطينيي سورية. والمعني بهم تحديداً، أو يرمز إليهم، مخيم اليرموك، الواقع بضعة كيلومترات جنوب دمشق. لا تعرف كيف دخل إليه تنظيم الدولة الإسلامية، ولا كيف خرج منه، ثم عاد فدخل مرة أخرى، بعدما صفّى، هو النظام، شباب الثورة السلميين. كان يسكن فيه ما يقارب ربع مليون نسمة، غالبيتهم العظمى من لاجئي النكبة، نصبت خيمتهم هناك عام 1950. وبعد معارك السنوات الأخيرة، صاروا ستة آلاف. المهم أن المخيم بعد التجويع والحصار والتدمير المنهجي على يد
بشار الأسد وحلفائه هو الآن عرْضة للانمحاء التام. في غزة، رفض نتنياهو حضور بعثة تقصّ دولية للتحقيق في جرائم حرب ارتكبها جيشه. وفي اليرموك، أيضاً، حصلت جرائم حرب، وحاولت الأمم المتحدة، بالاشتراك مع "أونروا"، إرسال بعثات للتحقّق منها، فرفض الأسد، كما رفض نتنياهو. وبذلك يكون أهالي مخيم اليرموك في طليعة مأساة من أخرجوا من ديار لجوئهم، ويكون أهالي غزة، الحافظون الأوفياء لذاكرتهم، لو انضموا إليهم. ولكنه الشتات. ولا نعرف بالضبط أين تشرّد الفلسطينيون السوريون، الأشد بؤسا من المشرّدين السوريين. يكادون يكونون غير موجودين، أو ضائعين وسط أرقام اللجوء السوري. "مسيرة العودة" في غزة أوجدت حدثاً استنْبطته من ماضيها البعيد والمتوسط. وبتزامنها مع جريمة تدمير اليرموك وتشريد أهله، تنبّهنا إلى ضرورة تسجيل الجرائم بحق السوريين والفلسطينيين السوريين في دفاتر اليوميات. لعله يأتي يوم، بعيد ربما، بعد موتنا، تفتح الخزانة ويتدفق الماضي، ليُبنى المستقبل. كما يحصل الآن مع الفلسطينيين في غزة وفي الشتات.
المسيرة، بذلك، تذكّر العالم أجمع، بأن الفلسطينيين ما زالوا معلَّقي المصير، بين سجنَي الشتات والاحتلال. مسيرة تدفع التاريخ دفعاً، بقوة روحها، نحو يوتوبيا العودة وحقوق أصحابها. بها يزور أهل غزة التاريخ، يحفرون بين جنباته، يستعيدون السؤال: أين بدأ طردنا من أرضنا؟ متى؟ كيف؟ بأي سياقات، بأي ظروف؟ يزورون التاريخ، يحيونه، يحتفلون بمأساته، لينقذوا المستقبل. ينصبون الماضي ليبنوا المستقبل. ويفهمونا بذلك أن الأوقات لا تنفصل، إلا في حال النسيان، في حال انقطاع الذاكرة عن مواردها الحيوية؛ الماضي البعيد والقريب هنا يختلطان. وجلّه ما كان يفضي إلى غير بؤرة العذاب هذه، التي اسمها شريط غزة. وأهاليه يقولون، بصوت أرواحهم القربانية هذه إنهم هزموا، نعم، لكنهم لم يموتوا، بدليل تضحيتهم، وهم عزّل، بهذه الأرواح. بأنهم هزموا، نعم، ولا حاجة إلى دلائل، ولا خطب، لكنهم لم ينسحبوا من الحياة، ويذووا؛ لم يذبلوا، بعد كل هذه السنوات من القتل والطرد والإذلال. أهالي غزة خلقوا الحدث، وأعطوا للعالم الذي يصغي إليهم فرصة ليقيس الأحداث الأخرى، الجارية في التوقيت نفسه.
ثلاثة أحداث موازية لمسيرة العودة فضحت نفسها بنفسها: افتتاح السفارة الأميركية في القدس. والتي أصبغت على وجوه المحتفلين بها وهندامهم سيماء الجبروت الأرعن، الكسول، الجاهل أو الناكر؛ خصوصاً لذاك الماضي الذي تحييه المسيرة. الحفل تقلص حجمه كحدث، مع المسيرة. بدا وكأنه يكمل، غير سائل، منحى المزيد من السرقة للأراضي، المزيد من القتل.. كانت الخطابات المحتفلة بافتتاح السفارة تُلقى جنباً إلى جنب مع الرصاصات المصوَّبة إلى صدور الغزيّين.
على الخشبة نفسها، كان وزير الخارجية الإيراني يعبر المحيطات، من الصين إلى روسيا إلى أوروبا، بروكسل، يجهد من أجل إنقاذ الاتفاق النووي المبْرم بينه وبين "الكبار"، وقد ألغاه ترامب، بالتزامن تقريباً مع قرار الأخير نقل السفارة الأميركية إلى القدس. لا يبدو الأميركيون هنا محتكرين للشرّ والمكر.. الإيرانيون أيضاً، بالنظر إلى مليشياتهم المذهبية العاملة في منطقتنا، لم يحرِّموا على أنفسهم معصية من معاصي الدجل الفلسطيني التي باتت معروفة باسم "المتاجَرة بقضية فلسطين". وهم بذلك على كل حال لم يخترعوا شيئاً. هم فقط يتابعون مسيرة أنظمتنا المتسترة بورقة التوت الفلسطينية، المزايدة منها أو المتواطئة، أو بالأحرى المزايدة والمتواطئة معاً.. حفاظاً، أيضاً، على شرعية لم تعُد شرعية. ربما من مصادفات التاريخ القصير أن تتزامن مسيرة العودة لأهالي غزة مع استبْسال الإيرانيين للحفاظ على الاتفاق النووي بينهم وبين "الأسرة الدولية". هم في واد، وفلسطين التي استنزفوا طاقاتها التحشيدية في واد آخر.. هذا خبث التاريخ، عندما يتفوَّق على لاعبي الكشاتْبين، على الفالحين في لعبة الشطرنج. انشغل الإيرانيون بإنقاذ نوويهم، غابوا عن القضية التي يدينون لها برفعهم إلى أعلى السماوات، فحلّ الأتراك مكانهم، وتحوّل الرئيس التركي أردوغان إلى أحمدي نجاد ثان، يبحر في المزايدة، الذكية دوماً، المثْمرة أبداً.
على الخشبة أيضاً حدث ثالث، قلّما لفتَ النظر لشدّة تعقّده: إذ يطاول فلسطينيي سورية. والمعني بهم تحديداً، أو يرمز إليهم، مخيم اليرموك، الواقع بضعة كيلومترات جنوب دمشق. لا تعرف كيف دخل إليه تنظيم الدولة الإسلامية، ولا كيف خرج منه، ثم عاد فدخل مرة أخرى، بعدما صفّى، هو النظام، شباب الثورة السلميين. كان يسكن فيه ما يقارب ربع مليون نسمة، غالبيتهم العظمى من لاجئي النكبة، نصبت خيمتهم هناك عام 1950. وبعد معارك السنوات الأخيرة، صاروا ستة آلاف. المهم أن المخيم بعد التجويع والحصار والتدمير المنهجي على يد