الفرعون فخر العرب
اندلاع حالة الهياج الشوفيني بين قطاعات من المصريين على منصات "السوشيال ميديا"، فتدفعهم إلى الاختباء في قوقعةٍ فرعونية، مع إغلاق الأبواب وتقطيع الخطوط مع أي انتماء حضاري وثقافي عربي، لا تعبر بحالٍ من الأحوال عن الإنسان المصري، بفطرته وشخصيته الحقيقية البسيطة.
يبدو هذا الحريق الشوفيني الهائل منتجًا مباشرًا، وقد يكون وحيدًا، لتلك الاحتفالية الصاخبة التي أقيمت لعبد الفتاح السيسي واثنين وعشرين من ملوك مصر الفرعونية وملكاتها، الأمر الذي يشي بأننا أمام حالة "تَنَعّر" مقصودة، بمعنى بعث تلك النعرة الرديئة التي تتغذّى على افتعال التناقض الحضاري والثقافي بين المصرية والعروبة والإسلام.
يصيبك الأمر بالدهشة، والغم والهم، معًا، حين تتزامن هذه اللوثة مع وقوف مصر أمام امتحان وجودي عسير في قضية مياه النيل، وانطلاق دعوات الحرب ضد إثيوبيا، باعتبار الحرب طريقًا وحيدًا للدفاع عن الحق في الحياة.
في مثل هذه الظروف، من غير المعقول، أو المقبول، أن يشعل أحد، أو جهة، حربًا ثقافية وحضارية ضد الانتماء العربي، يتم فرضها فرضًا على الجماهير، وتغذيتها بشكل هيستيري، بينما واجب الوقت هو حشد كل الجهود والطاقات لمواجهة العربدة الحبشية عند منابع النهر. تتخذ المسألة شكل اللوثة المصنوعة بفعل فاعل، يريد أن يستنزف كل الطاقة في معارك تافهة، تشغل الجميع عن معركة المصير.
إذا أردت أن تتأكد من أن ما تراه أمامك وحولك هو لوثة شوفينية مختلقة، جرّب أن تطرح موضوع نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى أية عاصمة عربية أخرى، وأن يتولى منصب الأمين العام للجامعة أي سياسي من جنسية عربية أخرى، ستجد المجموعات ذاتها، المشتعلة شوفينيًا في خندق الهوية المصرية، مقطوعة الصلة بامتدادها العربي والإسلامي. ستجدها فورًا في الخطوط الأمامية من جبهة القتال ضد "مؤامرة" كبيرة على العرب وأم الدنيا وقلب العروبة النابض التي يريد الصغار سرقة دورها التاريخي، وسرقة ريادتها وولايتها الأصيلة على الجامعة العربية.
جرّب كذلك أن تقول إن اللاعب الجزائري رياض محرز، وليس المصري محمد صلاح، هو فخر العرب، ستجد نفسك أمام عاصفة من الهجوم والاتهام بالحقد والغلّ على مصر الكبيرة، الشقيقة الكبرى للعرب والمعلمة والحامية للأمن القومي العربي، والتي يتم التحرّش بقيادتها وريادتها.
الشاهد أن إشعال معارك الهوية، طريقًا لاستثارة النزعات الشوفينية العربية، لا يحدث إلا في فترات الانحطاط السياسي والتردّي الثقافي، ليكون وسيلة سهلة ومريحة في متناول كل طاغية مستبد يحاصره الفشل والارتباك في القضايا الكبرى، المهمة، فيهرب إلى أحراش الماضي العريق، بحثًا عما يستر عوار الحاضر وعورته، وإلحاقًا لنفسه بقائمة أصحاب الأمجاد الغابرين.
موضوعيًا، قتل موضوع الهوية بحثًا بواسطة قافلة معتبرة من المفكرين والباحثين، مصريين وعربًا، على مدار القرنين الماضيين، خلصت إلى أنه لا تناقض بين أن تكون مصريًا وسوريًا ولبنانيًا ومغاربيًا ويمنيًا، وأن تكون عربيًا ومسلمًا ومسيحيًا في الوقت ذاته، ذلك أن الهوية الحضارية تنبع من جذور عديدة ومتنوعة، تتآلف وتتكامل مكونة تلك الوحدة الحضارية والثقافية العابرة للمعتقد الديني.
هذا المعنى، ستجده في كتاب "مسألة الهوية" للمفكر محمد عابد الجابري (المغرب)، كما تجده عند الدكتور علي فهمي خشيم (ليبيا) في كتابه "بحثًا عن فرعون العربي"، كما تقابله في أعمال مفكرين مصريين كثر، بدءًا من جمال حمدان في "شخصية مصر"، وليس انتهاء بالباحث سعد عبد المطلب العدل الذي قدّم بحثًا جريئًا في مطلع الألفية الجديدة وضع له عنوانًا أكثر جرأة يقول "الهيروغليفية تفسر القرآن الكريم".
ستعثر على عشرات الكتب المعتبرة التي تصدّت لهذا الموضوع، بعيدًا عن التعصّب الشوفيني، وتوصلت إلى نتائج وحقائق، تعفي الجميع من هذه اللوثة المصنوعة بفعل فاعل.