العرب وسياسات الخوف
تُبنى السياسة على مصالح وطنية أو طبقية أو فئوية أو طائفية، وقد تكون هناك سياسات عميلة أو محابية لقوى دولية مُؤثّرة، ونجد أنّ السياسات تُبنى على مبرّرات لا حصر لها، والأخلاق ليست واحدة من أسسها، ولكن، في جميع الحالات، لا يمكن أن تجد سياسةً تُبنى على الخوف. لأنّ السياسة التي تُبنى على هذا الأساس تفقد مبرّرها بوصفها سياسةً، لا بالمعنى الإيجابي للسياسة فحسب، بل حتّى بالمعنى السلبي لها أيضاً.
تمارس الدول العربية اليوم سياساتها من موقع الخوف، فهي وجدت نفسها بعد تحوّلات أصابت العالم والمنطقة أمام تطوّرات لم تكن في الحسبان، ولم تكن جاهزة للتعامل معها، بدءاً من تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول (2001) في الولايات المتّحدة، مروراً بالاحتلال الأميركي كلّاً من أفغانستان والعراق، ووضعت الولايات المتّحدة دول المنطقة في دائرة الاتهام، في حربها الجديدة ضدّ العدوّ الجديد، الذي خلف العدوّ الشيوعي بعد انهيار الدول الاشتراكية، وهذا العدوّ، كما حدّدته الولايات المتّحدة، هو "الإرهاب الإسلامي"، فوجدت هذه الدول نفسها تحت الضغوط الأميركية، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي، التي أسقطت سلطات وهدّدت أخرى، فلم يكن أمام هذه الدول سوى أن تتنصّل من كلّ شيء، وبات الجميع يدير سياساته، حتّى لا يكون في دائرة الاستهداف الأميركي. وإذا كان من حقّ أيّ سلطةٍ سياسيةٍ أن تدير سياسات حذرة في الزمن الصعب، فهناك فوارق كبيرة بين سياسة الحذر وسياسة الخوف، فسياسة الحذر تقوم على اعتباراتٍ داخليةٍ تأخذ بالاعتبار المتغيّرات العاصفة، بينما تقوم سياسات الخوف على إملاءات خارجية، تجد استجابة لها في السياسات الداخلية.
كان يقال، على مدى عقود، إنّ السياسات العربية تتّجه باستمرار نحو الانحدار، ولكنّها لم تصل في تاريخها المعاصر إلى الانحدار الذي وصلت إليه أخيراً
وما نشاهده اليوم في العالم العربي سياسات خوف أربكت كلّ خطاب سياسي قُطرِي على حدة، وأربكت بقايا سياسات عربية جماعية، فقد طغى القُطرِي على السياسات الجماعية، وفكّك حتّى إجماعها وإطارها الشكلي في صياغة سياسات عربية موحّدة شكلية (جامعة الدول العربية). وما يمكن لمسه أنّ العرب الذين أُطلق عليهم تعبير "ظاهرة صوتية"، أخذوا، في الآونة الأخيرة، يفقدون حتّى هذه الخاصية السلبية، وبالتالي، يفقدون بقايا السياسة التي تشغل حيّز الساحات السياسة العربية، فقد أطبق الصمت بشأن كلّ القضايا، وبقيت سياسات النفي عن هذه الواقعة أو تلك هي ما يشغل السياسة العربية، ولم يعد أحد يعرف ماذا تريد هذه السياسة أو تلك من إقفال باب السياسة نهائياً، بإغلاقها حتّى باب التعبير اللفظي عن قضايا يُفترض أنّها تمسّ جوهر القضايا العربية. وقد تجلّى ذلك بشكل صارخ في اتفاقات التطبيع مع أسوأ حكومة إسرائيلية، لم تقدّم أيّ تنازل، حتّى شكلي، لدول التطبيع، في المستوى الفلسطيني، التي أقدمت عليها دول عربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب، والتي شكّلت انعطافه حادّة في تعريف العدوّ والصديق، وأصبحت إسرائيل أقرب إلى هذه الدول من دول عربية أخرى، واعتبرتها حاميةً لها من مخاطر مُلّحة، مثل التهديد الإيراني دول الخليج.
ومن المفارقات المؤلمة لهذه السياسة أنّ أياً من أصحابها لم يُقدم حتّى على التهديد بإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل أو سحب السفير، خلال ثمانية أشهر من توغّل إسرائيل في الدم الفلسطيني في قطاع غزّة، الذي أسفر عن عشرات آلاف القتلى والجرحى، ومئات آلاف اللاجئين في القطاع المُحاصر، حتّى بات كلّ سكان القطاع لاجئين. ليس هذا وحسب، بل هناك سعي أميركي إلى مكافأة إسرائيل على جرائم الإبادة الوحشية المستمرّة في غزّة، من خلال الضغط على السعودية لتوقيع اتفاقات تطبيع مع إسرائيل في هذه الظروف، مقابل الحديث عن مسارٍ سياسي يُؤدّي إلى دولة فلسطينية بلا ملامح ولا حدود، كلام لذرّ الرماد في العيون، وحتّى هذا "الكرم" الأميركي ـ السعودي لم تقبله حكومة نتنياهو. رغم ذلك، ربطت الولايات المتحدة أيّ اتفاق دفاعي مع السعودية، والموافقة على مشروع نووي سلمي، بتوقيع المملكة اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، ومن دون ذلك، لا اتفاق مع الولايات المتّحدة.
ليس من مصلحة الدول العربية أن تعقد اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، وكأنّه لا يوجد احتلال لأراضٍ فلسطينية، وليس هناك شعبٌ يقبع تحت الاحتلال
لا يمكن إقفال باب التفاعل مع أحداث دولية مفصلية، والعيش في العزلة، وتحديد مصالح قُطْرِيّة ضيّقة، وكأنّ هذه الدول لا تعيش في الإقليم نفسه، ولا تتأثّر بالصراعات في المنطقة. لقد اختارت دول التطبيع أن تتجاوز الصراع مع إسرائيل، وتتجاوز صراعاً فيه ضحيّةٌ وجلاد، ولتقف مع الجلاد ضدّ الضحية، وألّا ترى الجرائم التي يقوم بها هذا الجلاد في حقّ الفلسطينيين، وكأنّهم شعبٌ من كوكب آخر. وإذا كان من الصحيح أنّ السياسة مفصولة عن الأخلاق، فإنّ هذه الدول تصيغ سياساتها بالضدّ من مصالحها، فإذا كانت لا تريد أن تقف مع حقوق الضحية، بصرف النظر عن أنّهم إخوة، فليس من مصلحة هذه الدول أن تعقد اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، وكأنّه لا يوجد احتلال لأراضٍ فلسطينية، وليس هناك شعبٌ يقبع تحت الاحتلال. فهذا الصراع أساس التوتّر في المنطقة، ومن مصلحة هذه الدول نزع فتيل التوتّر، وذلك لا يكون من دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. أمّا أن تتّبع هذه الدول "سياسة النعامة" التي لا تريد أن ترى سوى أوهامها، والمخاطر التي تمسّها مباشرةً من دون النظر إلى المخاطر الكُبرى التي تعيشها المنطقة، ما هو سوى هروبٍ بالمنطقة إلى ظروف سياسية إقليمية أكثر سوءاً، ولا تحمي مصالحها الضيّقة، كما تعتقد الدول المطبّعة. ولا يجب أن يكون هذا التفاعل من موقع الخوف، ولا أن يُغيّب القضايا الجوهرية للطرف المتفاعل مع هذه الأحداث. ليس هذا ما يجري على ساحة السياسات العربية، فهذه السياسة لم تفقد معناها وحسب، بل فقدت أيضاً مشروعيتها، وباتت عبئاً ثقيلاً على الدول التي تتّبعها، فالسياسات العربية تقدّم كلّ يوم أوراق حسن السلوك من دون أن تُحمل إحدى هذه الأوراق على محمل الجدّ، لأنّ الولايات المتّحدة تطلب المزيد ولا تكتفي.
كان يقال، على مدى عقود، إنّ السياسات العربية تتّجه باستمرار نحو الانحدار، ولكنّها لم تصل في تاريخها المعاصر إلى الانحدار الذي وصلت إليه أخيراً، ولأنّ الأسوأ ممكن دائماً، فإنّ هذه السياسات العربية تؤسّس لوضع عربي كارثي لم تشهده المنطقة من قبل. ولطالما كانت هذه السياسات، مجتمعةً ومنفردةً، لا تُعبّر عن متطلّبات المجتمعات العربية وآفاقها المستقبلية، إلا أنّها استطاعت أن تبرّر الدفاع عن مصالحها والحفاظ على مشروعية زائفة، أحياناً مقنعة، وأغلب الأحيان غيرَ مقنعة. َ