العراق من حكومة الشبح إلى حكومة الخمسة
في العراق وفرةٌ من النقد والرفض والجدل. مع الوقت، منذ عام 2003، صار الجميعُ، تقريبا، ممتعضا متحدِّثا. لا أحد راضيا، ولكل واحد أمرٌ يرفضه أو جماعةٌ يستاء منها. البلاد في انقسام حادّ غير مسبوق حتى في ذروة الصراع بين الشيوعيين والبعثيين في ستينيات القرن الماضي، بل وفي قمة حرب الجماعات المسلحة الطائفية. في تلك الأزمنة، كانت معطيات الشقاق واضحة. أما الآن فالخصام يقف على أرض متحرّكة، إلى درجة أن الآراء تتغيّر بسرعة هنا وهناك. حتى تظاهراتُ تشرين 2019، بعد أنْ أثلجتْ صدورَ الجميع باستثناء أتباعِ ولاية الفقيه الإيرانية، تاهت في انقساماتها الجدلية غير المنتجة.
وبوصف النقد فكرا، يتوّهم مَن يتلمّس الوضعَ أن للعراق وفرةً من التفكير تضمن مسارا تصاعديا. فلو آمنّا، مسلّمين، بالهيغلية، لقلنا إن الجدل العراقي ضمانةُ للانتقال، توالد يخلق ما هو جديد جرّاء تصادم المتناقضات. أما لو أمعنا النظر عن قربٍ، لوجدنا أن الحديث هو استعادة للظروف الموضوعية والذاتية نفسِها التي كانت. كلُّ جديد هو قديم بصورة أو بأخرى، في حلقةٍ من التكرار مملة. يعاني التفكير في العراق من معضلة أنه لم ينتج ما هو أفضل على مدى سبعة عقود. أمر جوهري مفقود، ليس الوحيدَ، إلا أن البلاد تحتاج إليه لزوما: الذاكرة القريبة فضلا عن البعيدة.
عندما شُكّلت حكومةُ عادل عبد المهدي في تسوية الفائزيْنِ الأول والثاني بانتخابات 2018، الصدريين والحشديين (كتلة الفتح)، بدا الاتفاقُ كسبا للوقت بين عدوّين أراد كلٌّ منهما الانقضاضَ على الآخر. اندلع غضبُ تشرين، فاستثمر مقتدى الصدرُ الفرصةَ لإسقاط عبد المهدي، والعملِ على تقويض سلطة الحشد الشعبي، وجاءت الأحداثُ متتابعةً ضد ما أراده الأخير، حتى هُزِم في الانتخابات أخيرا (أكتوبر/ تشرين الأول 2021) بأن لم يحصل إلا على 16 مقعدا فقط. وقعتْ هزيمةُ "الحشد الشعبي"، ما اضطرّه إلى العودة ليكون تابعا للمالكي تبعيةَ الضعفاء، ويفرضَ الثاني شروطَه كاملة والاسمَ الذي أراده لرئاسة الوزراء، ضمن ما يعرف بالإطار التنسيقي.
العراق في انقسام حادّ غير مسبوق حتى في ذروة الصراع بين الشيوعيين والبعثيين في ستينيات القرن الماضي
بعد عزلِ عبد المهدي، استُقدِم شخصٌ لم يكن على خريطة المتنازعين، إلا أنه مثّل أطرافا في الصراع السياسي. مصطفى الكاظمي الذي اشتغل مديرا لأكثر من مؤسسة صحافية، مع أنه لم يُظهر قدرات صحافيةً تُذكر، جاءت به اتفاقاتٌ لم تنكشف بعدُ خيوطُها كافة. ما هو بادٍ أن عرّابَه برهم صالح وأنه ربيبُ حيدر العبادي، ومثّل مرحلة انتقالية لمقتدى الصدر ودعمَه إلى حد ما عمار الحكيم سليلُ الأسرة الدينية المنافسة لآل الصدر. يحسبُ للكاظمي هنا أنه في السياسة الخارجية أبعَدَ العراقَ نسبيا عن التجاذبات المطلوبة إيرانيا. نجاح سبقتْه إليه حكومة العبادي 2014 - 2018. السياسات الخارجية اصطدمت بعقبة كبيرة أن طريقة إدارة البلاد جعلت الحكومةَ ثانويةً في الخصامِ الداخلي، فلا وجودَ لفعل دولة قبالة مراكز القوى، ولاحَ رئيسُ الحكومة ناشطا يدعو إلى الحلول أو شبحا لا تنعكس أفعالُه على الأشياء حين يلمسها، وليس صاحبَ أهم منصب تنفيذي.
يتفاخر الكاظمي بأنه حقّقَ انتخابات مبكّرة، برغم أن الإبكارَ فيها لم يتجاوز ستة أو سبعة أشهر عن موعدها الأصلي. يصرّ على أن مهمتَه كانت تلك، متناسيا المهمتينِ الأكثر حساسية وإلحاحا لشخص جيء به نتيجةَ الحراك، هما معالجةُ مطالب المحتجّين والكشفُ عن قتلة ناشطي التظاهرات والمشتغلين في الثقافة. المليشيات المتورّطة بتصفية متظاهرين كثيرين، وفي مقدمتها كتائبُ حزب الله، هدّدت الكاظمي. لكنه بدلا من المضي في مهمته الرئيسة، اكتفى بدور الشبح. انشغل برتوش هنا وهناك وتجميعِ ملفاتٍ على خصومه ليساوم بها إن سُئل، واستمرّ بإمساك العصا من الوسط، كأنه رئيسُ حكومة جاءت للعب دورِ المُرضِي وليس لفرض هيبتها أمام مراكز القوى. فبدلا من ملاحقة المجاميع المسلحة، وظّف السياسةَ الخارجية مدخلا لشرعيته، عامدا إلى الوساطة بين إيران والسعودية التي لم تؤدّ إلى نتائج تذكر. وفي النهاية، بدلا من إنهاء النهب المنظَّم، حيث السببُ الجوهري لأي احتجاجات عراقية، تنامت منظومةُ نهب تنتمي للقطاع الخاص وذاتُ صلة بمراكز نافذة داخل الحكومة. من أمثلتها قضيةُ سرقة مليارين ونصف مليار دولار الموجودة حاليا أمام القضاء، فأن تنهب شركة أهلية عبر تسهيلات لشخص أو اثنين في السلطة مثل هذا المبلغ من الدولة، هذا أمرٌ يصعب إيجاد مثيل له في العالم.
غادر الكاظمي، وقبله برهم صالح مغاضِبا، وجاء محمد شياع السوداني رئيسَ وزراء يقف خلفه نوري المالكي، ليصح القولُ إن رئيس الحكومة الأسبق هو من عاد، ومعه يرتفع صوتُ الموالين له ممن يتباكون من فساد الكاظمي، متناسين أن كل ما يقال عن أي حكومة عراقية سيكون قليلا أمام جرائر المالكي الأمنية والمالية والسياسية، والممكن اختصارُها بأنه امتلك فرصا كثيرة لبناء الدولة وإنهاء الكارثة فضيّعها بأن أصبح هو الكارثة. نوري المالكي مثل صدّام حسين وعبد الكريم قاسم لحظةُ خرابٍ عراقية فائقة تنتقي اتجاهاتِ الذاكرة، ومن اتجاهاتها المنتقاة أن كل ما فعله لم يمنعه من العودة إلى المشهد بقوة هذه المرّة، مستفيدا من غلطتي مقتدى الصدر بخروجه من خريطة البرلمان واستخدامِه السلاح في احتجاجات المنطقة الخضراء، بعد أن فشل في حكم العراق كاملا. وها هو الصدر في عزلةٍ يبحث عن فرصة، كي يعود بعد أن يَسقط خصومُه أو يُسقطهم، في معادلة لا تفاهم فيها مع آخر رغم كثرة الآخرين.
الجماعات الحاكمة لم تتعلم من الدروس، ولم تفهم أن الغضب سيؤدّي يوماً إلى كارثة دموية أكبر من أن يتحمّلوها ويتحمّلها العراق
هنا تُمكن الاستفادة من رأي فلسفي، مقولةٍ رشيقة للمفكرة وأستاذة الفلسفة الأميركية، مارثا نوسْباوم: "لا يمكنك الحصول على ديمقراطية عندما لا يتعلم الناس وضْعَ أنفسِهم موقعَ شخص لا يستطيع التفكير في ما تعنيه سياساته للآخرين". هي تقريبا تشبه "ضع نفسك مكان فلان". في هذه المقولة، تقلب المقاربةُ قليلا؛ فكي يتعلّم المرءُ شيئا عليه معرفةُ ما يعاكسه. ليتعلم الناسُ الديمقراطيةَ، عليهم أن يتخيّلوا أنفسهم في موقع شخص يفكر في كيف يُنظر له وقتَ يتخذ خطواته السياسية.
تنطبق مقولة نوسْباوم على العراق، حيث غزارة في النقد غيرُ ناجعة. رغم إرهاب المليشيات المواليةِ إيرانَ، تتعالى أصواتُ الرفض والتحدّي. وتفكيرٌ جوهري مفقود وسط صخب الرأي وتعدّد الرؤوس، هو تفكير المرء "بما تعنيه سياسته للآخرين". ومع فقدانه، تنعدم القدرة على رؤية الأخطاء أو تضعف. المفارقة أن البلاد المكوّنة من مجموعة من "الآخرين"، ليس التواصلُ بينهم تفاهما للتعايش، إنما لتقاسم للمكاسب. وعلى هذا الأساس، ولدت حكومة السوداني الخماسية. هي كذلك لأنها مكوّنة من خمسة أطراف رئيسية: دولة القانون بقيادة المالكي، كتلة تقدّم بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة آل البرزاني، كتلة الفتح وفي مقدّمتها مليشيا العصائب، وعزم برئاسة خميس الخنجر. هؤلاء برهن وجودُهم على رأس الحكم أن الحراك العراقي لم يحقّق نتائج سياسية مباشرة، وأن وجود حكومة الكاظمي السابقة كان التفافا على التظاهرات وامتصاصا لها، وعودةً ليست لأسباب الخراب فحسب، بل لتكريس لغة أن الآخرين المتناشزين داخل الحكم مستمرّون بتوزيع النفوذ على أساس شراكة التقاسم، وليس شراكة التفاهم.
بدلاً من المضي في مهمته الرئيسة، اكتفى الكاظمي بدور الشبح. انشغل برتوش هنا وهناك وتجميعِ ملفاتٍ على خصومه ليساوم بها إن سُئل
في هذه العودة، كان ممثلو حراك تشرين في البرلمان ضعيفين وفاقدي الحيلة، أمر متوقع بالطبع، فنواب المليشيات لا يتورّعون حتى عن استخدام الأيدي لإيذاء خصومهم، كما فعل ذلك ممثلون عن "الإطار التنسيقي"، العصائب تحديدا، مع النائب التشريني عن محافظة ذي قار علاء الركابي، عندما ضربوه وهدّدوه داخل البرلمان بالقتل. يعبّر هذا الاستهتار عن إخفاق ممثلي الاحتجاجات داخل البرلمان أنفسهم، حين رضوا بشراكةٍ مع ممثلي قتلة المحتجين ممن لا يمكن أن يفهموا حقيقة ما أغضب الناسَ منهم، لأنهم مصرّون على تفسير الأمور وفق مقاساتهم. فحين يوجد برلمانٌ فيه أشخاص يستخدمون التهديد بالقتل، ويتعرّضون لزميل لهم بالضرب، أو حين يدخل نوّابٌ مرتدين أكفانا قبةَ برلمانهم، هذا مؤشّر على ألا برلمان بل مجموعة من العصابات استخدمت الديمقراطية المشوّهة لتحصل على ما تريد بعيدا عن فهم ما يريده الآخرون. مثل هؤلاء لا تُمكن مشاركتهم إلا لمن هو مثلهم.
وتكرار تجربة تشكيل الحكومة وفق المقاسات والشروط والآليات والتقاسم والتبايع، الموجودة منذ بدايات العملية السياسية، مثال صريح على أن الجماعات الحاكمة لم تتعلّم من الدروس، ولم تفهم أن الغضب سيؤدّي يوما إلى كارثة دموية أكبر من أن يتحمّلوها ويتحمّلها العراق. هي تكررُ أخطاءَها أبدا، مع أنها تشارك الناس النقدَ وعدم الرضا. أي أن النقد الموجودَ ليس جدلا خلَاقا، ولا يتجاوز كونه صخبا وادّعاءات تصدر عن لقلقة خطاب. وفي بلاد يؤلَّه فيها الجلادون وتتنافس فيها الأطراف على التقاسم من دون التعايش وتُنسى الأخطاء ويحتج فيها كثيرون لأنهم ليسوا شركاء، لا رفضا للشراكة في ما هو قبيح، بلادٍ يفكّر فيها الفرقاء في أخطاء خصومهم قبل فهم أخطاء الأنا تجاه الآخرين، في بلادٍ كهذه، يأتي جددٌ كأنهم ليسوا جديدين، إنما القدماءُ أنفسُهم يعودون، لكن بوجوه أخرى، بينها وجوه يُخيّل للمرء حسنُها.