العراق .. لننتظر ونرَ ما سيحدث
يبدو أن استراتيجية "لننتظر ونر ما سيحدث" التي يتبعها وكلاء إيران في العراق هذه الأيام، والموحى بها من "مرجعية قم" قد نجحت، إلى حد ما، وبدأت تُؤتي ثمارها وسط الأزمات المتتابعة التي يعاني منها العراقيون، وترافق ذلك مع انخفاض أرصدة حكومة مصطفى الكاظمي، وفشلها في معالجة أيٍّ من المشكلات التي يُفترض أنها جاءت من أجل التصدّي لحلها. وقد انكشف تردّدها وعجزها حتى لمن كان يحسن الظن بشخصية رئيسها الذي أرادت جهاتٌ دوليةٌ أن تجعل منه "رجل المرحلة" الذي يستطيع أن يعيد إلى العملية السياسية التي هندسها الأميركيون بعض بريقها، وأن يعيد إنتاجها على النحو الذي يحقق إرساء حالة وضع عراقي شبه مستقر. وأن يكبح جماح إيران الطامعة في الهيمنة المباشرة على جيرانها، إنفاذا لمشروعها العرقي الطائفي المتعصب. وكان الكاظمي قد حاول عبر سياسة "مسك العصا من الوسط" أن يتّقي غضب الأطراف الخارجية المتخاصمة على الساحة العراقية، طارحا نفسه وسيطا بينها، لكنه أخفق في كل ما كان منتظرا منه، وما أوكل إليه، جرّاء تردّده وضعف شخصيته وعدم قدرته على الحسم في مواجهة "الأفاعي" التي أحاطت به، والتي اعترف أكثر من مرة بمحاصرتها له. وقد تكون أميركا في الطريق إلى نفض يدها منه، إذ يتهم باحثون أميركيون الكاظمي بالتقاعس عن تحقيق الوعود التي أطلقها حين تسلم رئاسة الوزراء، وفشل في مواجهة المليشيات الموالية لإيران التي دأبت على إطلاق الصواريخ على المصالح الأميركية في العراق. ولم يبق أمامه سوى رفع الراية البيضاء، وهذا ما تنتظره إيران ووكلاؤها النافذون الذين لن يوفروا وقتا إضافيا لقلب الطاولة والعودة الى المربع الأول، حيث يمكنهم آنذاك المجيء برئيس حكومة على وفق المقاسات المحدّدة من قم. وربما يرسو الأمر على زعيم حزب الدعوة، رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، الذي لم يكفّ عن التنمر مذ فقد "الكرسي الذهبي" رغما عنه، وظلت عيونه ترنو إليه!
ظهر "وكلاء" إيران في العراق وهم يتنفسون الصعداء، مراهنين على ما سيحدث، واكتسبت ردود أفعالهم طابع الارتياح المشوب بالترقب
نحن إذن أمام تعقيدات جديدة في الوضع العراقي والإقليمي، يزيد من حدّتها صعود جو بايدن صاحب مشروع "تقسيم العراق" المثير للجدل إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، والذي يشكل فرصة ثمينة للطبقة الحاكمة في طهران، المتطلعة إلى تخفيف الضغوط عنها، وربما الوصول إلى حالة من التطبيع الهادئ مع "الشيطان الأكبر"، وهي الحالة التي يرى عراقيون كثيرون أنها سوف تنعكس عليهم سلبا، بحكم الوجود الإيراني الفظ في بلادهم. ولا يتوقع الراسمون سيناريو "قلب الطاولة" أن تتدخل إدارة بايدن في شأنٍ كهذا بشكل مباشر، كما كان عليه الحال في عهد دونالد ترامب. ولذلك ظهر "وكلاء" إيران وهم يتنفسون الصعداء، مراهنين على ما سيحدث، واكتسبت ردود أفعالهم طابع الارتياح المشوب بالترقب، "كتائب حزب الله" عبّرت عن أملها بـ"إنهاء الأزمة وسحب الجنود الأميركيين من العراق"، واعتبرت فترة رئاسة ترامب "فترة هدم". وقالت "حركة النجباء" "إن انتخاب بايدن يمهد الطريق للتعاون بين الدول". وكان نوري المالكي أول المهنئين لبايدن، وقد أراد أن يفخر بأن له صلة وثيقة به، ونشرت مواقع مقرّبة منه صورا تجمعهما معا في لقاءاتٍ رسمية. والحال أن علاقتهما نمت وتطورت في أثناء وجود المالكي على رأس السلطة، وفي حينها تكرّرت زيارات بايدن إلى بغداد إبّان كان نائبا لأوباما.
تُرى .. من سيكون الطرف الخاسر في هذه اللعبة العبثية القاتلة؟ أغلب الظن أن أول من سيخسر هم شباب الانتفاضة/ الثورة الذين فقدوا الكثير مما حصلوا عليه في البداية، بعدما عمل الصدريون، ومعهم بالطبع ما يطلق عليه بعضهم صفة "الطرف الثالث"، على تفكيك القوى القائدة للانتفاضة، وتجييرها لصالح إعادة إنتاج العملية السياسية الماثلة التي توشك على الموت مع تعسر ولادة البديل، وقد ننتظر وقتا أطول، قبل أن يرى المولود الجديد النور.
والأكثر خسارة هم المواطنون العاديون الذين يعيشون تحت خط الفقر باحثين، ليلهم ونهارهم، عن رغيف خبز أو حبة دواء، وقد ازدادت أعدادهم على نحو مفجع. يورد البنك الدولي رقم خمسة ملايين ونصف المليون، فيما تعطي منظمات مدنية ضعفه. وما على هؤلاء سوى التماهي مع مسيراتٍ تمنحهم الشعور بأن اشتداد البلوى امتحان لصبرهم الذي يشبه صبر أيوب، وعزاؤهم أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، بعدما خسروا وطنهم الذي يوشك أن يذهب مع الريح.