العراق المستعصي على الحل الوطني

16 ديسمبر 2020
+ الخط -

استغلت الكتل السياسية العراقية، الشيعية، المسار العراقي السياسي والميداني المعقد والهش في بلدها، وأوجدت كارتيلات التيارات السياسية حول الدولة/ السلطة، وبالتعاون مع الدولة العميقة في العراق. وبعد أن أبدعت في إنتاج قوة عسكرية موازية وأكثر تجهيزاً وقوةً من الجيش العراقي، واستخدمت سلاحها فيما يؤمّن الحفاظ على مصادر تمويلها ومصالحها، ونجحت في ترسيخ العراق تحت الحكم المناطقي والمذهبي، وسعت، بكل قواها، صوب تشكيل هويّة مغايرة للهويّة المطلوبة، هويّة أحادية بحامل شيعي فحسب، وسعت، بكل قواها، إلى تمزيق الهويات الفرعية، ونجحت في تدجين الهوية الفرعية السنية وتحجيمها، لكنها أخفقت في إجهاض الهويّة الكُردية أو إنهائها، مقابل نجاحها في سرقة أحزاب كُردية من الحضن والتحالف الكُردستاني، بعد ذلك كله، لا تزال مستمرة في مساعيها، وبخطوات متسارعة صوب إنهاء أيّ أمل بهوية وطنية عراقية جامعة.

وبعد أن فشلت تلك الكتل في تقويض تظاهرات تيار تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عبر فائض القوة والقمع، وصل إلى حد الإعدامات الميدانية، وبعدما يئست من بناء تكتلٍ مضاد ضمن الكتلة المنتفضة نفسها أو خارجها؛ على أمل النخر من الداخل، واللعب على وتيرة ضرورة التدخل لفض الخلاف الناشئ، والذي سيحتاج، بطبيعة الحال، قوة حفظ الأمن والنظام، نظام النهب المنظم، وليس الحكم والعدالة، بعد ذلك كله ازدادت تلك الكتل حنقاً وغضباً، خصوصا بعد تعاطفٍ عابر لمختلف الهويات الفرعية في العراق.

حمل تدخّل الصدريين بين صفوف المتظاهرين، في صورته، التعاطف مع صوت الشباب، لكنه، في الركيزة والعمق، كان رغبة في السيطرة وتمرير مرشحهم لرئاسة الوزراء

وفي محاولة السيطرة على الحِراك الشعبي، وتمثيل دور التضامن في "الظاهر"، والساعي إلى القبض على القرار الشيعي في "الخلفية والعمق"، تقدّم تيار الصدر في فبراير/ شباط 2020، لمحاولة ضبط إيقاع التظاهرات، مستغلاً رفض الرئيس العراقي، برهم صالح، ترشيح مرشّح كتلة البناء المدعومة من إيران، والمرفوضة من التيار الشعبي المنتفض، ونجح الصدريون في تأمين بديل رئيس الوزراء حينذاك، عادل عبد المهدي، بعد تمكّنهم من التناغم مع باقي الأطراف والكتل للحصول على التأييد الكافي في البرلمان، لتمرير مصطفى الكاظمي. تزامنا مع الانتخابات الأميركية التي رغبت بأي تهدئة، ولم تكن إيران في وارد الصدام في تلك الفترة لتعقد الملفات التي تواجهها.

حمل تدخّل الصدريين بين صفوف المتظاهرين، في صورته، التعاطف مع صوت الشباب، لكنه، في الركيزة والعمق، كان رغبة في السيطرة وتمرير مرشحهم لرئاسة الوزراء، ولم تكن سوى ديمومة إقصاء الهويات غير الشيعية، سيما وأن تقاطع مطالب المتظاهرين في مختلف المناطق والمحافظات العراقية أوضحت إمكانية إعادة ترميم هويّة عراقية بمطلبٍ جديد. وقد تطلّب هذا الأمر ضرورة إنهاء الاعتصامات عبر الحيلة أو القوة، وهو ما حصل في الخامس من الشهر نفسه، حيث أول هجوم مسلح علني للصدريين على ساحة الاعتصام في النجف، والذي أوقع ستة شهداء وعشرات الجرحى. ولكن فشل الصدريين في تجيير التظاهرات لصالحهم أجبرهم على الانسحاب؛ على أمل أن يكون البديل كافياً للإجهاض، حيث رافق الانسحاب هجوم عسكري عنيف من الحشد الشعبي والجيش العراقي والفصائل الشيعية المسلحة على المتظاهرين، لكنها فشلت أيضاً بسبب التحشيد الشعبي من الطلبة الجامعيين.

خرج شباب العراق أيضاً من القمقم، وتدحرجت كرة الثلج وكبرت

 

في الواقع، خرج شباب العراق أيضاً من القمقم، وتدحرجت كرة الثلج وكبرت. والثابت أن لا تغيير في ذهنيات المسيطرين على العراق ما بعد 2003 عما قبله، لجهة اللجوء إلى العنف والقوة في مواجهة أيَّ شيءٍ قدّ يؤثر على فسادهم ونهبهم، أو يؤثّر على مشاريعهم التوسعية داخل العراق وخارجه.

واستمرت محاولات "البيت الشيعي إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 " بوتيرة عالية في شيطنة كل التظاهرات؛ لأنها، في المحصلة، تؤدي إلى تمزيق عرى التحالف المصلحي بين الكتل غير المنسجمة، وهي كانت مستعدةً للدفاع عن سؤددها وسيطرتها وتصدّرها المشهد السياسي بعد 2003 ولو كلف ذلك شلالاتٍ من الدم، وهو ما حصل بفرض القوة العسكرية المؤلفة من مختلف التيارات الشيعية التي اختلفت بشدة فيما بينها سابقاً، والتي شكلت فيما بينها كارتل النفوذ/ الدولة، ولولا تواطؤ رسمي من الحكومة العراقية ما تمكّنت القوة العسكرية الشيعية من السيطرة على حركة الاحتجاجات والـ"فوز" على الشعب.

عودة الالتئام الشيعي وإعادة التخندق المذهبي في ترتيب البيت الشيعي، في ظل ضياع البوصلة وتفتت الهويّة السنية

ويبدو جلياً أن التمدّد المذهبي في العراق يتغول على حساب الهويّة الجامعة، وبدأت تمثلاته تنسج ما يؤمن، ليس انتصارها الساحق فحسب، وإنما خنق أصوات الهويّات الفرعية الأخرى أيضاً عبر قانون الانتخابات الجديد، وخصوصا المادتين 15 و16، واللتين تجيران التقسيم إلى دوائر انتخابية عديدة ضمن المحافظة، من دون العودة إلى الوضع القائم في المناطق السنية وإقليم كردستان العراق. علماً أن كتلاً شيعية كتحالف البناء (كتلة القانون) برئاسة نوري المالكي، والفتح ممثل الحشد الشعبي، هي الأخرى ترفض القانون، خوفاً من سيطرة الصدريين والكتل الشيعية الصغيرة والمرشحين المستقلين على المشهد السياسي، خصوصا بعد الفساد والنهب والإهمال المتعمد وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطق كالموصل، في أثناء سيطرة المالكي، لكنها تختبئ خلف الكتلتين، الكردستانية والسنية؛ خشية من الضغط الشعبي، ومحاولة إظهار الكرد المتسببين بإفشال الانتخابات ومطالب الحراك الشعبي.

الرفض الكردي مبني على مخاوف تحويل الأقضية إلى دوائر انتخابية، بدلا من المحافظات (كما في قانون الانتخابات السابق)، ما يؤدي إلى ضياع أصوات الكُرد في المناطق المختلطة طائفيا وعرقيا، بينها المناطق المتنازع عليها التي يسعى إقليم كردستان إلى ضمّها بموجب المادة 140 من الدستور. وتتوسّع دائرة المخاوف السنية من مواد القانون للسرعة التي حاولت كتل شيعية من تمرير المادة 15 من دون الأخذ بالحسبان طبيعة المناطق السنية المنكوبة، وخصوصا الموصل، وضياع آلاف البطاقات الانتخابية، ومخاوف من تزوير الحشد الشعبي وتأثيره على انتخابات أقضيةٍ ودوائر انتخابية في الموصل.

يتغول التمدّد المذهبي على حساب الهويّة الجامعة، وتمثلاته تنسج ما يؤمّن، ليس انتصارها الساحق فحسب، وإنما خنق أصوات الهويّات الفرعية

وبعد سبعة عشر عاماً من الممارسات والسلوكيات الطائفية والدموية، لا نتاج سوى إعادة تكرارِ نظام سياسي طائفي مع رغباتٍ جهويةٍ لإدامة هذا الخطاب والنظام السياسي إلى أمد غير معروف، وقد حلم العراقيون بدولة جديدة، ذات حمولة وطنية، وبهويّة جمعية وطنية. بعد أن أبدع النظام العراقي السابق في ترسيخ هويّة سنية للعراق كأحد منتوجات الممارسات السياسية للدولة العراقية ومفرزاتها، وهي بطبيعة الحال كانت هويّة أحادية، قهرية إلغائية، لم يقبلها الكرد ولا الشيعة، وتأمّل الناس خيرا بسقوط تلك الهوية القمعية الأحادية مع لحظة سقوط النظام العراقي في إبريل/ نيسان 2003. ولكن حاصل المنتوج الجديد للممارسات السياسية بعد ذلك لم يكن إعادة إنتاج هويّة وطنية حقيقية. وتحصيل حاصل، لا وطنية واضحة متوثبة في العراق الذي سمي كذبا "الجديد"، وسط تغوّل المذهبية، عوضا عن المعنى القيمي للوطنية والمواطنة. ما يجري في العراق إنما يؤثر بعمق على الجوار القريب، إذ أصبحت شعوب الجوار مدركةً أن الوطنية تحولت، بسبب المفاعيل السلطوية الشيعية في البرلمان العراقي، إلى خرافةٍ دعائيةٍ وتبريرات خطابية لا غير، وإنها ستختفي في اللحظة التي ترغب بها تلك الكتل، وتعود إلى الظهور مجدّداً مع أول حاجة.

وأمام سيولة المشهد السياسي والأمني والشعبي في العراق، والإرث الصعب لمائة عام من الخلاف والصراع والتصدّعات في بنية المجتمع العراقي، تتعنّت الكتل الشيعية بشأن مصير الانتخابات والقوانين "الجائرة" بحق أطرافٍ سياسيةٍ أخرى، (سنة، كرد) انتقاماً، لأنها تعرقل المشاريع المذهبية والعنصرية المطبقة ضدهم وضد هويّة العراق. ومع استمرار الطبقة السياسية بالاستقتال في سبيل إدامة وجودها في السلطة، ولو كلف ذلك بحراً من الدماء. يبدو أن لا حلول في الأفق القريب للوضع العراقي المتشعب بالممارسات المذهبية، والمتوثب برداء المواطنة، خصوصا أن المعطيات، من قانون الانتخابات إلى التحالفات، ستفضي، في النهاية، إلى إعادة إنتاج الطبقة السياسية الفاسدة نفسها، والتي لم تصنع في العراق، منذ 2003، سوى مزيد من القتل والدمار. يضاف إليها عودة الالتئام الشيعي وإعادة التخندق المذهبي في ترتيب البيت الشيعي، في ظل ضياع البوصلة وتفتت الهويّة السنية، يقابله الوضع الكردي المكتفي بالتدخّل أحياناً، والمشاهدة أغلب الأوقات، والمستند إلى عاملين. أولهما: اليأس من أي شراكةٍ مع بغداد بعد قرابة العقدين من عدم تنفيذ الدستور، والقطع المستمر لموازنة الإقليم والضغط عبر قضية رواتب الموظفين، والجرح غير القابل للاندمال بعد الحرب على الإقليم بسبب "حقّ الاستفتاء". وثانيتهما: عدم بلورة موقف كردي موحد في بغداد من مختلف القضايا السياسية الخاصة بالعراق ككل، أو الإقليم بشكل خاص، وهو الآخر حصيلة نتائج تمزيق الكتل الشيعية السياسية، وعبر إيران، لنسيج وحدة الموقف الكردي.