العالم من دون "بي بي سي عربي نيوز"
توقفت إذاعة بي بي سي نيوز عربي عن بثها الإذاعي عبر الأثير، تماماً، أول من أمس الجمعة، الواحدة ظهراً، في توقيت "بيغ بن" في نهاية رسالة مؤثرة لمستمعيها، وهي انخرطت، بجهود كبيرة، خمسة وثمانين عاماً، مؤسسة إذاعية ملتزمة في نشر الخبر العربي، وعرفت كيف تتعامل مع الأحداث، تطبخ أخبارها جيدا، وتختار ما تريده لتقدّمه لجمهورها، قبل أن تعاني حرجا في أوضاعها المالية، وإغلاق 382 وظيفة توفيرا للنفقات، والانتقال إلى بثّها الرقمي على الإنترنت ومنصّات التواصل الأجتماعي والشبكة التلفزيونية.
شغل قرار الإقفال النهائي نقاشات المهمة، ولكن المحطّة لم تتمكّن من تغيير إيقاع ساعتها الذي يجيء على نحو درامي يشمل موظفيها والمستمعين. الإذاعة وسيلة حياة، عالم صغير جداً. صحيح، لكن فكرة عالم من دون إذاعة مخيفة مع تطور المدينة، والديمغرافيا المكتظّة بالناس على الأوتوسترادات السريعة والفرعية. قد يكون قرار إقفال إذاعة ليس أمرا مهما لكثيرين، لكننا، نحن الإعلاميين، لم نفهم فكرة الإغلاق كفاية، لكنّها بفعل الرأسمالية التي تستطيع ذلك لصالح عالمٍ بعيدٍ عن المدينة، في وقت أن "بي بي سي" لم يغادرها مستمعوها. أن تستمع إلى الردايو يعني الاهتمام بالأخبار الأساسية على مدار الساعة، وأن تحدّد مكان العالم من حولك. أن يحضر العالم في خبر شيء مميز، وكذلك الأحداث، كما تحصل في كلام المعلقين بين الإيجابية والإحباط. من الصعب قبول فكرة أنّ الاذاعة التقليدية بلا فائدة. كيف ستتقدّم فكرة العيش مع الآخر؟ إذاً، سيكون العالم من دون "بي بي سي"، وعلى نحو من الخوف أكثر، ألّا تستمع الناس إلى أشياء من حياتها.
جاءت "بي بي سي" تتويجا للزمن الجميل، زمن الشغف الذي كان فيه للفنون وليس للسياسات دور إبداعي، لا يقل وظيفةً عن التجدّدية الاجتماعية والسياسية
تثير خطوة الإغلاق أسئلة حول النتائج المنطقية عما يثيره التحول نحو التغطية الرقمية، والآمال الكثيرة حول أجيال تنتظم في الزمان والمكان الجديدين (خواسيه خواكين برونر). وما وراء هذا التجديد، حيث ترتسم خيارات مجتمعية مختلفة (رئيس الشبكة، سمير فرح)، وعن الأشكال التعبيرية على المنصّات المفترحة بدائل، وتحديدا الراديو الإلكتروني (بودكاست)، والدور الذي سيخصّص لأصوات إذاعية (نسائية متميزة في غالبيتها)، عملن في تقدّم المؤسسة وريادتها بصورة جذرية. يسهب فرح في شرح تجربة انتقالية مختلفة، "في برمجة محمّلة بأفكار وتصورات ثقافية، في عالم يتغيّر بوتائر متسارعة. صناعة المعلومات والاتصالات البعيدة المدى، والبثّ الإذاعي، في طريقها إلى التلاقي. وصار ممكنا إرسال البيانات والأحداث والصور بسرعة بالغة، وبطريقة التشفير الرقمي، بإمكانات متاحة بفضل جهاز واحد متعدّد الوظيفة، يؤدي في آن وظائف الإذاعة والتلفزيون وتقارير الكمبيوتر، وأن مجال الإعلام يتقدّم بوسائل ذكية.
لكنّ وضع كلّ ذاكرة العالم في صورة رقمية واحدة لن يتم من دون خسائر تضعف علاقة أنطولوجية مع الواقع، في نوع جديد من الخلط بين الحقيقة والخيال، بين الطبيعة الإنسانية والصناعة الرقمية، والتلاعب بالمبادئ الأخلاقية والصور، والرموز، والتعبيرات. من المهم معرفة تعقيدات الواقع المادي، والاعتراف بها، لإدارة مؤسّسة، صارت معها الإنسانية لغة مشتركة، قبل تحوّلها الى طابع تماثلي.
تغادرنا دنيا النغم "هنا لندن" التي حافظت على أصواتها، على أسلوبها الخاص
إذاً، لن ترافق المؤسسة وصول الناس إلى بيوتها، أو في سجونها. ثمة نسبة كبيرة من سكان العالم لا يملكون أي خدمات أساسية، وعدد المبعدين عن الطرق السريعة للمعلومات بالملايين، ويمكن تصوّر أشكال من عدم المساواة مع 4% من الذين يتابعون المؤسسة حصرا عبر الراديو، وكيف ستعمل المحطّة على إبقائهم معها، إضافتهم إلى 96% من جمهور يتابعها عبر الوسائط المتعدّدة (أرقام فرح)، وكيف يكون "الإخلاص قديما، مستمرّا، وأمانة، تتبع الناس حيث هي". جاءت "بي بي سي" تتويجا للزمن الجميل، زمن الشغف الذي كان فيه للفنون وليس للسياسات دور إبداعي، لا يقل وظيفةً عن التجدّدية الاجتماعية والسياسية.
تغادرنا دنيا النغم "هنا لندن" التي حافظت على أصواتها، على أسلوبها الخاص. لغة وحكاية لحقبة من تاريخ العرب وهويتهم، سواء من "بوش هاوس"، أو من استديواتها في لندن، أو عبر شبكة مراسليها في العالم، وهي تبثّ بعشرات اللغات وتقدّم الاخبار، لطالما استقتها من مصادر مستقلة. للتذكير، جاء إطلاقها قبل 84 عاما ردّا مباشرا على إطلاق إيطاليا الفاشية العام 1934 "راديو باري"، الموجّهة إلى العالم العربي. وفي خضم صراعات سياسية، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.
طبيعيٌّ أن تكون مآخذ كثيرة على إذاعة بي بي سي عربي، وألّا تحظى بالإجماع حولها، إذ لا يمكن تبجيلها بالكامل
"بي بي سي" أكثر من لعبة نغم، ومن لعبة صوت، ارتبطت طويلاً في أذهان المستمعين في العالم العربي، وتعكس أعداد المستمعين إليها، (13 مليون شخص أسبوعياً)، حسب استطلاعات مطلع العام الجاري، مدى التقدير العالمي لها. لا أحد، واتته فكرة الإغلاق تلك. مجتمع الإذاعة لا تختزله السوق، في سوء تفاهم غير محتمل، فالمنصّات الرقمية لا تختزل كل شيء، خصوصا أنها تأتي مع طبيعة الإغلاق القصوى. يظن أنها تأتي في لحظة سياسية انخرطت فيها المؤسسة أكثر في قضايا الاجتماع العربي الحديث، وبعنف لغوي تضامني، تجاه من يحتلّ فلسطين، ويمعن قتلاً وتشريداً وتفكيكاً وقمعاً بالشعب الفلسطيني. لحظة غير مستقلة عن أوضاع عالمية متعثرة، تبرز فيها بطريقة شعبوية، لوبيات مناهضة للعربية ومشتقّاتها، روافدها في أوروبا.
بمعزل عن ذلك كله، من حق الجمهورأن يكوّن فكرة شاملة عن مصير محطّة تابعها في مواقفها، آرائها، مناقشاتها، وتحليلها السياسي. وطبيعيٌّ أن تكون هناك مآخذ كثيرة عليها، ولم تحظ بالإجماع حولها، إذ لا يمكن تبجيلها بالكامل. في الوقت نفسه، ليست مسؤولية الإذاعة عن إجراءات استشراقية كولونيالية نافدة، ولا عن الإجراءات غير الديمقراطية لأنظمة توتاليتارية. في النهاية، شكلت المؤسسة فضاءً واسعاً، تحرّكت فيه الأصوات، التعدّديات المتناقضة، بحريةٍ نسبيةٍ، ديمقراطيةٍ نسبيةٍ، ومعها تطلعات وانتقالات أوطان وشعوب، ومسالك حياة ومجتمع. تحوّلات عديدة شكلت مجتمعاً إذاعياً مفتوحاً، لم يؤدّ الى تنافر كبير مع الثوابت والأعراف الراسخة، في حين جذبت إليها المضطهدين السياسيين والمقموعين إلى أهل الفن والشعر والأدب، والفكر والسياسة. تبقى هوامش متفائلة باستمرارية تعود معها الإذاعة بـ"همزة وصل" ما إلى ناسها.