الصين وفلسطين... رؤية من شنغهاي

29 نوفمبر 2023
+ الخط -

أكتب من شنغهاي، التي تأسّس فيها الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، ويقول الصينيون عنها إنها مرآة لما سيجري في عموم البلاد. ومنها انتقل شي جين بينغ إلى السلطة السياسية في بكين، بعد أن كان أميناً للجنة الحزب في المدينة التي يحلو للأوروبيين تسميتها "باريس الشرق"، معلناً في 2022 التحديث الثالث للبلاد الذي يُضاف إلى مشروعه الأثير "مبادرة الحزام والطريق" التي أعلنها عند تسلّمه السلطة عام 2013، وذلك عقب ما يعتبره الصينيون تحديثياً: تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949 على يد الزعيم الأول، ماو تسي تونغ، وإطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح على يد الزعيم الثاني، دينغ شياو بنغ، عام 1978.

هذا التحديث الثالث، الذي يكرّس شي زعيماً ثالثاً للبلاد، رغم وجود رئيسين آخرين بينه وبين دينغ حكما على نهج "القيادة الجماعية" في فترتين رئاسيتين لكلّ منهما، ينطوي على انتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة من المتانة الداخلية، تواجه متطلبات العدد السكاني الكبير، وديون الحكومات المحلية في المقاطعات، وتطوير جودة الصناعات كي يتغيّر الانطباع السائد عن عبارة "صنع في الصين" ليكون مكافئاً للجودة. ويرى الصينيون أن عليهم مواجهة هذه التحدّيات بسرعة قبل أن تستثمرها الولايات المتحدة لتعطيل صعود بلادهم... غرض مشروع التحديث إذن تمهيد السبل لمواصلة صعود البلاد التي تحولت في نحو 30 عاماً (1978 – 2010)، من دولة فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

مع هذه الملفات الداخلية الأساسية في مشروع التحديث، يريد الصينيون أن يكون تحديثُهم باباً إلى انتقال العالم إلى نظام جديد يكون فيه لبلدهم حصّة وحضور وكلمة مؤثّرة، لكن بسلام ومن غير حروب، أو هكذا يحلم الصينيون على أقلّ تقدير، ومن غير سعي إلى الحلول محلّ الولايات المتحدة قطباً وحيداً للعالم. تريد الصين أن تتشارك مع الولايات المتحدة، وربما مع غيرها، في السياسة الدولية، لا أن تتحوّل إلى قطبٍ وحيدٍ بديل، أو هكذا تدّعي. وتتعهّد الصين أن تصبح دولة عظمى لا تمارس الاستعمار ولا الإمبريالية، أو هكذا تفترض في نفسها، مستندةً إلى تاريخها غير التوسّعي.

الحقيقة أن الصين لم تقل إنها باتت دولة عظمى، ولا إنها تناطح أميركا في السياسة الدولية أو تسعى إلى الحلول محلها حتى وإنْ تجاوزتها اقتصادياً

وإذا تحقّق ما يريده الصينيون من مشروع التحديث الثالث هذا؛ الذي يسمّونه "التحديث النمط"، فإن الأمر يقتضي أن ينعكس على ملف الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه ملفٌّ رئيسي في أزمات العالم. ربما يصح القول إن مكانة الدول الكبرى في الساحة الدولية، وأهميّتها السياسية، وأهليّتها للعب دور في العالم، يتجلى في "ملفّ الشرق الأوسط" أكثر مما يمكن أن يتجلّى في غيره. وعليه، اتساع حضور الصين عالمياً، الذي يطمح إليه الصينيون في مشروعهم للتحديث، يعني أنهم سيتدخلون في الصراع العربي الإسرائيلي... ولكن كيف سيتدخلون؟

لقد اتخذت فيه الصين موقفاً معلناً لصالح القضية الفلسطينية منذ مؤتمر باندونغ الذي دشّن منظمة عدم الانحياز عام 1955، وعلى مدار عقود عهد ماو الذي رحل عام 1976. ثم رغم أن الصين نحت نحو البراغماتية في عهد دينغ، وأقامت علاقات عسكرية واقتصادية وازنة مع تل أبيب، ما تزال قائمة، فإنها ما فتئت تؤكّد حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم والعيش بسلام، ذلك أن الصين بفضل قدراتها المالية الهائلة ما تزال قادرة على الفصل بين مواقفها السياسية (الأخلاقية) ومصالحها الاقتصادية.

حاول شي جين بيغ في مطلع عهده الرئاسي التدخّل لدفع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فدعا محمود عبّاس وبنيامين نتنياهو إلى الاجتماع في بكين، لكن إسرائيل أبت، بضغط من واشنطن أولاً، ولأن من غير مصلحتها إشراك وسيط محايد في عملية السلام، إلى جانب الوسيط الأميركي المنحاز لها.

علينا أن لا نضيّع الفرصة، ولا نترك للحركة الصهيونية كسب الصين إلى صفّها

اليوم، مع مشروع التحديث، وسعي بكين إلى التدخل في مختلف ملفات الصراع الدولي، كما فعلت حين طرحت مبادرة سلام في شأن حرب روسيا وأوكرانيا، واتفاق مصالحة بين السعودية وإيران، تريد أن تدلي بدلوها في شأن الصراع الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط، بمناسبة الحرب الإسرائيلية على غزّة، لكنها تفعل ذلك بتأنٍّ يتناسب مع إدراكها أنها ليست لاعباً أساسياً في السياسة الدولية، وأنها إنما تتلمّس خطواتها تمريناً للمستقبل لا أكثر.

في مشروع التحديث، الذي يشمل التنمية الداخلية وتعظيم الفوائد العالمية والربح المشترك من التنمية الاقتصادية، على قاعدة السلم الدولي والتعاون، تقول الصين إن تدخّلها في أي صراع يبدأ من نقطة عدم إلقاء اللوم على أحد من أطرافه، بل التطلّع إلى حله بشكل متوازن يحقق العدالة للجميع، لا للقوي على حساب الضعيف.

خلال الحرب على غزّة، قال معلقون عربٌ في نقد الموقف الصيني: أين الصين التي تقول عن نفسها دولة عظمى؟ لماذا تلوذ بالصمت وتخشى مواجهة أميركا؟ الحقيقة أن الصين لم تقل إنها باتت دولة عظمى، ولا إنها تناطح أميركا في السياسة الدولية أو تسعى إلى الحلول محلها حتى وإنْ تجاوزتها اقتصادياً. وإذا كنّا نحسن التقدير، علينا الاستعداد لمستقبل الصين، والتهيؤ لما سيكون عليه شكل العالم في منتصف القرن، لمّا تنجز الصين مشروعها، وتصبح القوة الاقتصادية الأولى، ولا يعود العالم كما نعرفه اليوم. علينا أن لا نضيّع الفرصة، ولا نترك للحركة الصهيونية كسب الصين، هي الأخرى، إلى صفّها. ألا يكفي أن الصين لم تستجب للدعاية الصهيونية والغربية التي حاولت شيطنة المقاومة الفلسطينية، على عكس ما فعل عربٌ كثيرون تجاوبوا مع محاولات الدعاية الغربية لشيطنة الصين في ملفّات مختلفة؛ علمية ودينية وسياسية في السنوات الأخيرة، من غير تدقيقٍ ولا فهم؟

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.