الصين وأميركا: كيف وصلنا إلى الصدام؟

08 اغسطس 2022
+ الخط -

بدأت الصين التعبير عن "قلقها من استمرار النظام الدولي أحادي القطبية" الذي تتحكّم به الولايات المتحدة، وأملها في إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، منذ مطلع الألفية الجديدة، وليس قبل ذلك، أي بالضبط عندما بدأت التنمية الاقتصادية تثمر فيها نهوضاً ملموساً.
في أغسطس/آب من عام 2003، أصدر الحزب الشيوعي الصيني بياناً استثنائياً طالب فيه بإقامة نظام دولي سياسي واقتصادي يراعي الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية، ويعالج النزاعات الدولية سلمياً، ويمنع التهديد باستخدام القوة، ويتجنّب فكرة الحرب الباردة، وتتمتع فيه كل الدول بسيادة متساوية، وإقرار حق كل دولة باختيار نظامها الاجتماعي وطريقتها في التنمية، بدعوى أن "من المستحيل أن يكون هناك نموذج واحد للكل".
غير أن ذلك الموقف السياسي لم يؤثر سلبياً على التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة التي ظلت بدورها تستشعر أهمية الصين بعد أكثر من عقد من انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، برغم استمرارها في استعمال لغة الانتقاد تجاهها بشأن مسألة "حقوق الإنسان"، تارة للضغط على الحكومة الصينية، وأخرى لاعتبارات أميركية داخلية نتيجة ما يفرضه الناشطون الأميركيون في مجال حقوق الإنسان. ونتيجة توسع العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، باتت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول بالنسبة للصين، فبلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين في عام 2003 ما قيمته 191.674 مليار دولار، وهو ما مثّل 22.5% من إجمالي تجارة الصين الخارجية في تلك السنة، وما نسبته 9.45% من تجارة الولايات المتحدة الخارجية، كما ارتفعت قيمة صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بين عامي 1974 و2003، من 123 مليون دولار إلى 163.255 مليار دولار، فيما ارتفعت وارداتها منها من 807 ملايين دولار إلى 28.419 مليار دولار، وواصل إجمالي حجم التبادل التجاري بين الطرفين ارتفاعه عبر السنين ليصل في عام 2011 (أي عشية إطلاق الصين مبادرة الطريق والحزام) إلى نحو 211.6 مليار دولار.

أرادت القيادة الصينية في عهد هو جينتاو تخفيف مشاعر الخشية التي تظهر في الغرب من النمو الصيني المطّرد، لتؤكد أن الصين ليست خطراً على العالم

وعلى الصعيد السياسي، كانت العلاقات قد شهدت خلال عهد الرئيس بيل كلينتون (1993-2000)، توتراً في بداية الأمر، كان من دلالاته زيارة رئيس تايوان، لي تينج هي، واشنطن في مايو/ أيار من العام 1995، وهي أول زيارة من هذا النوع لمسؤول تايواني، منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة، لكن علاقات البلدين عادت إلى التحسّن بعد ذلك، إذ أدركت إدارة كلينتون عدم جدوى مواجهة الصين دبلوماسياً واقتصادياً. وفي أجواء التحسّن هذه، زار الرئيس الصيني، جيانغ زيمين، واشنطن في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1997، وفيها أعلن كلينتون سياسته تجاه الصين، القائمة على "اللاءات الثلاث": لا لاستقلال تايوان، لا لوجود دولتين في الصين وتايوان، ولا لدخول تايوان المنظمات الدولية التي تقتصر عضويتها على الدول. لكن علاقات الدولتين عادت إلى التراجع مع إدارة الرئيس بوش الابن (2001 -2008)، التي تعاملت مع الصين باعتبارها "منافساً استراتيجياً"، وانتهجت سياسة دعم تايوان، بما في ذلك بيعها الأسلحة، محذّرة الصين من مواصلة مساعيها لتطوير أسلحتها الصاروخية وغير التقليدية.    
تبنّى مجلس الدولة الصيني في عهد الرئيس الصيني التالي، هو جينتاو (2003 - 2012)، مقولة "التنمية السلمية" باعتبارها "الطريق الوحيد لإنجاز تحديث الصين". إذ أرادت القيادة الصينية الجديدة وقتها تخفيف مشاعر الخشية التي تظهر في الغرب من النمو الصيني المطّرد، لتؤكد أن الصين ليست خطراً على العالم، وأنها لا تسعى إلى المنافسة على النفوذ العالمي، وخصوصا في مواجهة الولايات المتحدة. وقد تزامن هذا النهج الصيني السلمي مع الاهتمام بأمور التسلّح وتحديث الجيش، في إطار استراتيجية دفاعية شاملة.
في عام 2013، تسلم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مقاليد السلطة، وبدا واضحاً، منذ أيامه الأولى، في السلطة أنه "رئيس مختلف" عن سابقيه، سواء من حيث طموحاته الخارجية، أو من حيث الكاريزما التي يتمتع بها، وتطلعه تالياً إلى البقاء في السلطة. هكذا، سيتم التمهيد فعلاً لإعادة انتخاب شي لدورة رئاسية ثالثة في أواخر العام الجاري 2022، وهي المرّة الأولى التي تتجاوز فترة حكم الرئيس دورتين انتخابيتين، منذ تنازل الزعيم دينغ شياو بلينغ عن السلطة عام 1992.

إذا كانت الصين ما تزال ترى نفسها أقلّ من مناطحة الولايات المتحدة، فستمارس الحكمة وتنحني للعاصفة وتؤجّل المعركة

العالم، إذن، أمام "صين مختلفة" في عهد شي جين بينغ، فقد تمدّد نشاط الصين خارج الحدود بشكل غير مسبوق، مع مبادرة "الطريق والحزام" الاقتصادية التي ابتدعها شي منذ عام 2013. وفضلاً عن هذا الجانب الاقتصادي، وما يرتبط به من تقدّم تكنولوجي وعلمي عرفته الصين في عهد شي، سواء على الأرض أو في الفضاء، فإن الأهم أن الصين تقدّمت عسكرياً بشكل لافت، وكان من تداعيات ذلك أن الصين ركّزت على حقها في استعادة جزيرة تايوان، لتكون جزءاً من "الصين الواحدة" التي تمثلها جمهورية الصين الشعبية.
والحال أن العالم يقف اليوم على حافّة الصدام الأميركي الصيني، ليس بسبب مطالبة الصين بضم جزيرة تايوان، ولا بسبب رغبة الولايات المتحدة بالحفاظ على وضع تايوان الحالي، بل لأن الصين تمدّدت في عهد شي بشكلٍ يسمح بتحويل مطالباتها المتعلقة بنظام عالمي متعدّد الأقطاب إلى أفعال تهدد النظام العالمي أحادي القطبية، الذي تتمسّك به الولايات المتحدة. وهذا يعني أن مسألة تايوان لا تعدو أن تكون ذريعةً يستعملها الطرفان، الأميركي والصيني، لتبادل رسائل التحذير بينهما، فليس بلا معنى أن تهبط طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، في تايوان كي تقول أميركا للصين: "نحن سادة العالم"، وليس بلا معنى أيضاً أن تطلق الصين ردة فعل عسكرية تجاه تايوان عقب الزيارة، كي تقول لأميركا: "الوضع العالمي لم يعد كما كان".
السؤال الكبير في العالم اليوم: ماذا بعد هذا التوتر بشأن تايوان؟ وهل ستندلع حرب مباشرة بين الولايات المتحدة والصين؟ الإجابة مرهونة بالمدى الذي تغيرت فيه الصين: إذا كانت الصين في عهد شي تغيرت إلى الحد الذي يمكنها فيه تعديل موازين القوى العالمية، فإن الحرب ستندلع بالضرورة، أما إذا كانت ما تزال ترى نفسها في حجم أقلّ من مناطحة الولايات المتحدة، فإنها ستمارس الحكمة وتنحني للعاصفة وتؤجّل المعركة إلى عقود لاحقة. لا أحد يعرف الإجابة الكاملة إلا القيادة الصينية.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.