الصين وأزمة أوكرانيا

23 فبراير 2022
+ الخط -

حافظت السياسة الخارجية الصينية على موقعها في ظل السياسة الخارجية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة. بكلمات أخرى؛ لم تكن للصين سياسة خارجية مستقلة عن روسيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا لا يعني أنّ البلدين كانا حليفين على هذا الصعيد، بل إنّ الصين رأت من مصلحتها اتباع السياسة الخارجية الروسية، بينما تفرّغت هي للصعود الاقتصادي.

لذلك ليس مفاجئاً ولا غريباً وقوف الصين اليوم إلى صف روسيا في الأزمة التي تواجهها الأخيرة أمام الولايات المتحدة في شأن أوكرانيا، بل ليس جديداً، ويمثل استمراراً لما درجت عليه الصين، وهو السلوك السياسي الذي يفسّر مواقف الصين إزاء مختلف القضايا الدولية، ومنها ثورات الربيع العربي، بما فيها الثورة السورية: إنها في الحقيقة مواقف روسيا التي تتبعها الصين بحذافيرها.

تمثل أزمة أوكرانيا فرصةً ذهبيةً لإنفاذ طموحات بكين في شأن النظام العالمي

صحيحٌ أنّ الصين، منذ وصول رئيسها الحالي، شي جين بينغ، إلى السلطة مطلع عام 2013، بدأت تتطلّع إلى دور دولي متزايد، ذي مرجعية اقتصادية تتأسّس على خطة الطريق والحزام التي تقوم عليها مجمل علاقاتها الدولية، إلّا أنّ ذلك لم ينتج سياسة صينية خارجية متمايزة عن روسيا، غرضها في ذلك إعادة تشكيل النظام العالمي المتمحور حول القطبية الأميركية الواحدة، لصالح إيجاد نظام أكثر توازناً، لكن من دون أن تكون الصين رأس حربةٍ في مواجهة واشنطن وحلفائها الأوروبيين.

من هذه الزاوية، تمثل أزمة أوكرانيا فرصةً ذهبيةً لإنفاذ طموحات بكين في شأن النظام العالمي، بحيث تكون موسكو أساس المواجهة مع الغرب، وتقف هي في ظلّ روسيا للاستفادة من تغيير موازين القوى في العالم، ويمكنها، بعد ذلك، النظر في علاقاتها الدولية وفي شؤون سياستها الخارجية.

الأزمة الأميركية الروسية في شأن أوكرانيا تمثل طوق نجاة لبكين من المواجهة التي كادت تفرضها عليها واشنطن

لذا، ليس دقيقاً تفسير توسع العلاقات الاقتصادية بين موسكو وبكين، أخيراً، على أنّه "تحالف" بين الطرفين، حتى وإن كانا يقولان ذلك في العلن. اتفق البلدان، أخيراً، على رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما قيمته 140 مليار دولار، وزيادة إمدادات الغاز الروسي للصين إلى 48 مليار متر مكعب سنوياً، وبدا كما لو أنّهما يتحالفان لتشكيل جبهة شرقية، تستعيد ذكريات الحرب الباردة. لكنّ الصحيح أنّ ما يجري يمكن التعبير عنه بأنّ الدولتين الكبيرتين تستعمل كلٌّ منهما الأخرى، وليس دقيقاً أنّهما تتّخذان حالة التحالف الاستراتيجي.

لا تريد الصين من العلاقات الدولية في المدى المنظور سوى المكاسب الاقتصادية، لذلك هي تفضّل التفاهم مع الولايات المتحدة بدل المواجهة معها. ولولا أنّ واشنطن أرادت أن تأخذ بكين إلى مربع الصراع في السنوات الأخيرة، لما ذهبت إليه الصين أبداً، لأنّ أيّ صراع سياسي، أو حتى عسكري، سيعيق خطط بكين الاقتصادية، التي تمثل، في الحقيقة، منتهى طموحاتها، حتى منتصف القرن الحالي على أقل تقدير.

صحيحٌ، إذاً، كما تحب التحليلات الغربية أن تقول، أنّ الأزمة الأميركية الروسية في شأن أوكرانيا تمثل طوق نجاة لبكين من المواجهة التي كادت تفرضها عليها واشنطن، بموجب ما ذهبت إليه سياسة الرئيس جو بايدن في السنة الأخيرة، لكن الصحيح أيضاً أن الصين تفضّل ألا تتحول الأزمة الأوكرانية إلى مواجهةٍ عسكريةٍ بين روسيا والغرب. لا تريد الصين الحروب، لأنها تعيق خططها الاقتصادية، ولا تريد الإبقاء على القطبية الأميركية لأنها تهدّد توسّعها الاقتصادي، ولا تريد أن تكون مقدّمة للمواجهة مع واشنطن والغرب، لأن ذلك أيضاً يفسد طموحاتها الاقتصادية. ووفق هذه الأسس الثلاثة، يمكن فهم موقف الصين من أزمة أوكرانيا: الوقوف في ظل روسيا لدعم تشكيل حالة عالمية غير أحادية القطبية، لكن من دون تحول الصراع إلى حروب أو الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب.

لا تريد الصين من العلاقات الدولية في المدى المنظور سوى المكاسب الاقتصادية

أما القول إنّ الصين تختبر الغرب في مسألة أوكرانيا؛ أي أنّها تريد أن تستكشف ردة فعل الغرب لو وقع غزو روسي لأوكرانيا، لتعرف ما الذي سيجري لو قرّرت الصين غزو تايوان وضمها، فهو قول متهافت، لأنّه يتناقض مع العقلية السياسية الصينية التي لا تقرّر الإقدام على خطوة ما من دون التأكد من النجاح فيها، وهو أمرٌ لا يكفيه منهج "القياس" على الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن أنّ بكين لن تذهب إلى اتباع أسلوب الهجوم العسكري لضم تايوان من حيث المبدأ، على مدى العقود القليلة المقبلة. هذا إذا قرّرنا غض النظر عن التباينات الجمّة بين مسألتي أوكرانيا وتايوان التي تعتبرها الصين جزءاً من أراضيها، انفصلت بسبب دعم الغرب حكم "الكومنتنغ" بعد فراره من بكين على وقع نجاح الثورة الشيوعية عام 1949.

يبقى أن نلاحظ، نحن العرب، المعنى العميق لاستعداد الصين التنازل عن شراكتها في الصناعات العسكرية مع أوكرانيا، لصالح مساندة روسيا في معارضة انضمام كييف إلى حلف الناتو، وهي شراكةٌ تمكّنت بكين بفضلها من نقل التكنولوجيا العسكرية السوفييتية سنوات طويلة، عقب تفكّك الاتحاد السوفييتي، وتقليدها وتطويرها، بما فيها طائرات مقاتلة، ومحرّكات طائرات، كذلك أول حاملة طائرات امتلكتها الصين عام 1998، إذ اشترتها من أوكرانيا بحجة تحويلها إلى ملهى ليلي عائم، لكنها طوّرتها، واستنسخت عنها أول حاملة طائرات تصنعها الصين، فالمغزى يمكن استنتاجه من قياس شراكة الصين العسكرية مع أوكرانيا على شراكتها في المجال نفسه مع إسرائيل، والتي تمكّنت من خلالها أيضاً من نقل تكنولوجيا عسكرية غربية كانت ممنوعة عليها. والاستنتاج أنّ علاقة المصلحة التي تربط الصين بإسرائيل، كالتي ربطتها مع أوكرانيا، يمكن تفكيكها في حال تنظيم علاقة استراتيجية مع الصين؛ التي هي قوة عالمية صاعدة يحسن الارتباط بها تخطيطاً للمستقبل.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.