الشوكولامو أيضاً وأيضاً
تحدّث الممثل السوري، باسل خيّاط، في مقابلة تلفزيونية طويلة، بأسى بالغ، عن شعور المقتلَع من وطنه، المنفيّ وإنْ باختياره، المنكسِر من الداخل على نحوٍ يصعب إخفاؤه. يقول إنه كان في إحدى حدائق باريس مع ابنه حين اقتربت منه سيدة فرنسية وناولته بعض المال قبل أن تبتعد وسط ذهوله. يقول إنها ربما رأت انكساراته التي كان يجهد لإخفائها فأشفقت عليه؛ فأنت خارج وطنك، إذا كان خروجُك هروباً من الموت، تبدو متسوّلاً. لم يقل الجملة الأخيرة، لكن المنفى يُخلخل الأبعاد أو الجدران غير المرئية التي يستند إليها الكائن البشري، وبسببها يتوازن. ينطبق هذا ربما على الغني والفقير، الصغير في السن والكبير، المغمور، والذي يتمتع بشهرة كبيرة.
عاش الشاعر العراقي الكبير، عبد الوهاب البياتي، في الأردن عدة سنوات بعد حرب الخليج، في تسعينيات القرن الماضي، وكان يتردّد على مقهى ثقافي هناك "غاليري الفينيق". يجلس وحيداً أغلب الوقت، أو مع أحد أصدقائه من الأردنيين أو العراقيين، بعينيْن متوجّستين، تستطلعان المكان كل الوقت. ربما كان يبحث عمّن يعرفه في هذا المكان الذي يبعد مئات الكيلومترات عن بغداد، وكان يبدو لكاتب المقال آنذاك مُنكسراً على نحو يتعذّر جبْره.
لا أعرف ما إذا كانت سلاف فواخرجي، وهي ممثلة سورية شهيرة، قد مرّت بالتجربة نفسها التي مرّ بها باسل خياط أو البياتي أو بما يشبهها، خصوصاً أن الملايين من مواطنيها السوريين، وبينهم عشرات من زملائها الممثلين والمخرجين والكتّاب والفنانين، قد أُجبروا، لأسبابٍ منطقيةٍ ومتعدّدة، وبعضها معقّد، على ترك ديارهم إلى دول الجوار والغرب، حفاظاً على حياتهم أو أسرهم أو حتى حرّيتهم الشخصية.
ويبدو أن فواخرجي لم تمرّ بأي تجربة، وهذه ليست مشكلتها في كل الأحوال، بل في تعاميها غالباً عن الجانب الإنساني، دعك من السياسي، لتجارب أولئك الذين كانوا يعيشون معها وفي قربها ثم فرّوا هرباً بحياتهم إلى منافٍ، بعضها قاسٍ وغير رحيم.
نقول هذا ونحن نقرأ مرافعتها الطويلة في معرض دفاعها الضمني عن صحافية لبنانية أهانت السوريين، ولنقل بعضَهم وليس كلهم، ممن يعملون في لبنان. وهؤلاء يتعرّضون لضغوط نفسية كبيرة في ظل دعواتٍ تتزايد، تصدر هنا أو هناك، لترحيلهم، مع ما ينطوي عليه أي ترحيل قسري من تهديداتٍ تطاول حياتهم وعائلاتهم، في غياب أي ضماناتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ ملزمة للنظام بعدم التعرّض لهم.
ترى فواخرجي أن تصريحات تلك الصحافية يمكن تفهّمها، فهي تحبّ بلدها وتخاف عليه، ويكفيها ما يتعرّض له، وكان بامكانها (الصحافية) أن تجمّل كلامها ولكن وجعها حال دون ذلك. أما عن مواطنيها في لبنان، فبعد أن أبدت تعاطفها معهم، نصحتهم بالقول: "يا غريب كن أديب (أديباً)". لا تنتهي مرافعتها هنا، فسريعاً ما يتكشّف الأمر عن تفريقها بين السوريين ونظامهم، فالمعيار بالنسبة إليها هو النظام، وليس المواطنة نفسها، أو الشعور بما تسمّى الكرامة الوطنية، فالصحافية التي عابت على عامل سوري عدم معرفته "الشوكولامو" (نوع من الآيس كريم)، وقالت إن السوريين تعلّموا في لبنان قول "بونجور"، ولا يصدّقون أنه يمكنهم الجلوس مع فتاة لبنانية، وقفت منذ الأيام الأولى للحرب على سورية، والوصف لفواخرجي، مع الوطن (سورية) ولم تتخلّ عنه وما زالت، ثم إنها (الصحافية) سيدة حرّة كانت تستنكر أي عدوان صهيوني على سورية، بينما هناك سوريون، حسب ادّعاء فواخرجي، كانوا يحتفلون ويزغردون ويوزّعون الحلوى عندما تتعرّض بلادهم لعدوان إسرائيلي. والصحافية نفسها، بحسب فواخرجي، تعرّضت وتتعرّض لأقذع الشتائم وكل أنواع التهديد لأنها قالت وتقول إنها مع سورية قيادةً وشعباً، فكيف والحال هذه لا تتعاطف معها؟!
فواخرجي نفسها التي تُماهي، بتصريحاتها هذه وسواها، بين الوطن وقيادته، تقول إنها ابنة سورية وليست ابنة السلطة، ولا تقبل أن يتجرّأ أي مخلوق على بلدها، ولعلها تقصد قيادته السياسية حصراً، أما مواطنوها فتفصيلٌ صغير لا يستوقف الفنانة الشهيرة التي حسمت موقفها منذ اليوم الأول للثورة الشعبية في بلادها، ورفضت التوقيع على بيان الحليب الذي أطلقته الكاتبة ريما فليحان في الشهور الأولى للثورة، لتوفير الحليب والغذاء والدواء لأطفال درعا التي حوصرت آنذاك ونُكّل بأبنائها. ربما لأنهم لم يعرفوا "الشوكولامو".