الشهيد رائد جاد الله وبدعة "تحسين ظروف الاحتلال"
رائد يوسف جاد الله، عامل فلسطيني، وحيد أبويه، كان في التاسعة والثلاثين من عمره، عندما أعدمه بدم بارد جنود الاحتلال يوم الثلاثاء 31 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) على حاجز الجيش الإسرائيلي على مدخل بلدة بيت عور التحتا.
قضى رائد عشرين عاماً من حياته يعمل بستانياً لدى المحتلين، وكان يقوم بعملين في اليوم نفسه، لتأمين لقمة العيش لأطفاله الخمسة، أكبرهم يوسف في الخامسة عشرة من عمره، وأصغرهم لم يكمل عامه الثالث بعد، تُركوا جميعاً يتامى بعد استشهاد والدهم... كان مواطناً فلسطينياً بسيطاً، ولم يكن له أي نشاط سياسي، ولم يكن هناك أي مبرّر لإعدامه، سوى رغبة جندي إسرائيلي مجرم في ممارسة هواية قنص الفلسطينيين وقتلهم، فقتله وهو عائد إلى منزله في التاسعة ليلاً، بعد يوم عمل مرهق، وتركه ينزف على الأرض حتى الموت. وهو الشهيد الثامن الذي اغتاله جنود الاحتلال بدم بارد على الحواجز العسكرية في هذا العام، ومن بين هؤلاء الشهداء مي عفانة التي اغتيلت على حاجز حزما، وابتسام كعابنة التي اغتيلت على مدخل مدينة أريحا.
حديث متواصل ومخادع من حكام إسرائيل، ومن يناصرونهم، عن تحسينٍ مزعومٍ لأحوال الفلسطينيين، بديلاً لحقهم في الحرية وإنهاء الاحتلال
وعلى الرغم من أن رائد كان ضحية بطش الاحتلال من دون سبب، فإن إسرائيل ستصنّفه مثل كلّ الشهداء الفلسطينيين إرهابيا، وكذا الذين يدعمونها، وكل المنظمات "الإنسانية" التي تخاف من نفوذها ومن نشاط اللوبي الصهيوني، فإسرائيل تصر على سلب كل حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في أن يصنّفوا ضحايا لإرهابها.
كان رائد الشهيد الخامس والستين الذي يُقتل برصاص الاحتلال في هذا العام (2021)، في الضفة الغربية، والشهيد رقم 352 في الضفة الغربية وقطاع غزة. وجرائم قتل الفلسطينيين على الحواجز، والتي تضاعف عددها هذا العام بالمقارنة مع العام الماضي، تعكس نهجاً متصاعداً في شعور الجنود الإسرائيليين والمستعمرين المستوطنين بأنهم فوق أي قانون، وأنهم غير خاضعين للمساءلة، وأنّ حكومتهم وجيشهم على استعداد لاختراع أي كذبة، مهما بلغت تفاهتها، لحمايتهم من المحاسبة. ويعبّر هذا النهج عن جوهر نظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي الذي لا يعترف بحق الفلسطينيين في الحياة أسوة بسائر البشر. وذلك كله يجري في حين يتواصل الحديث المخادع من حكام إسرائيل، ومن يناصرونهم، عن تحسينٍ مزعومٍ لأحوال الفلسطينيين، بديلاً لحقهم في الحرية وإنهاء الاحتلال.
رصاصتان أطلقهما جندي عنصري حاقد خلال أقل من نصف دقيقة غيّرت مسار حياة عائلة بأكملها
قبل رائد استشهد سبعة فلسطينيين على جبل صبيح في بيتا، وهم يتظاهرون سلمياً لحماية أرضهم من المستعمرين المستوطنين، وانضمّوا جميعاً إلى حوالي مائة ألف فلسطيني استشهدوا منذ النكبة عام 1948... وقد وصف لي يوسف، ابن الشهيد رائد، وعمره 15 عاماً، وهو يحاول حبس الدموع في عينيه، كيف هاتف والدُه والدته قبل استشهاده بدقائق، وقال لها إنّه سيصل إلى البيت خلال ربع ساعة، ومرّت ساعتان من دون أن يصل، فخرج الفتى يبحث في عتمة الليل عن أبيه، وسار في الطريق التي يسلكها والده عادة بعد اجتياز الحاجز العسكري الإسرائيلي، ووصف كيف استخدم ضوء هاتفه لإنارة الطريق، حتى شاهد آثار دماء على الأرض، فاتصل بهاتف والده، ومن خلال رنينه اكتشف مكان جسد والده الملقى على قارعة الطريق، مصاباً برصاصتين، وسط بركة دماء نزفها حتى الموت.
رصاصتان أطلقهما جندي عنصري حاقد خلال أقل من نصف دقيقة غيّرت مسار حياة هذا الفتى، وأمه، وأربعة أشقاء وشقيقات، إلى الأبد، سيعيشون يتامى من دون أب، وسيبقى هذا الجرح غائراً في نفوسهم طوال حياتهم. ومع تقدير تضامن أهل بلدهم وتكافلهم معهم، إلّا أن لا شيء سيعوّض من فقدوه، ولا شيء سيعيد حياتهم إلى مسارها الطبيعي، بل قد يحاسبون ويلاحقون، طالما استمر الاحتلال، لأنّهم أبناء وبنات شهيد سقط ضحية لرصاص الاحتلال ذاته، وتُرك ينزف حتى الموت.
ما جرى لرائد جاد الله وعائلته أبلغ تعبير عن سخافة ما يتشدّق به بعض الدبلوماسيين المستريحين في مكاتبهم عن إجراءات بناء الثقة، وعن إجراءات اقتصادية تافهة بديلا لإنهاء الاحتلال، لأنّهم يتبنّون الرواية الإسرائيلية، أنّ الوضع غير مناسب لحلّ حقيقي ينهي معاناة الفلسطينيين، وآلامهم، ويخلّصهم من احتلال أصبح الأطول في التاريخ البشري الحديث، ومن نظام الأبارتهايد العنصري الأسوأ في عصرنا.
69 طفلاً، كانوا يحلمون بأن يصبحوا أطباء، ومهندسين، وعلماء، ومعلمين، وانقطع حبل حياتهم، وأحلامهم إلى الأبد
ليس في وسع الكاتب في هذا المقال القصير وصف ما جرى لكل واحد وواحدة من 352 شهيدا فلسطينيا، استشهدوا هذا العام وحده. ولكن من الممكن التذكير بما جرى لـ69 طفلاً استشهدوا في قطاع غزة خلال عدوان إسرائيل في شهر مايو/ أيار الماضي، ومنهم حمادة ابن الـ13 عاماً، وعمّار ابن السنوات العشر اللذان استشهدا وهما عائدان من مدرستيهما، ويحيى الطفل الذي استشهد وهو يحاول شراء مثلجات من دكّان مجاور لمنزله، أو الأشقاء أميرة (ست سنوات) وإسلام (ثماني سنوات) ومي التي لم تكمل تسعة أشهر من عمرها، وجميعهم وجدوا شهداء تحت ركام منزلهم الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية... 69 طفلاً، كانوا يحلمون بأن يصبحوا أطباء، ومهندسين، وعلماء، ومعلمين، وانقطع حبل حياتهم، وأحلامهم إلى الأبد.
هل هناك ما هو أشد وقاحة من اقتطاع حكومة إسرائيل ملايين الدولارات من ضرائب الفلسطينيين التي يدفعونها من عرق جبينهم، بما يساوي ما يقدّم من دعم لعائلات الشهداء والأسرى، ثم تقديم الأموال المسروقة نفسها قروضاً بفائدة للسلطة الفلسطينية، واعتبار ذلك كله مؤشّراً على النيات الحسنة وإجراءات بناء الثقة... صدق من قال: "شرّ البلية ما يضحك".