السيسي إذ يحاجي عويس الراوي يوم القيامة

14 أكتوبر 2020
+ الخط -

فجّر مقتل الشاب خالد سعيد عام 2010 ثورة مصرية في العام التالي مباشرةً. صحيحٌ أن أسباب الثورة كانت موجودة قبل ذلك بسنوات، غير أن ذلك كله بقي ساكنًا ونيئًا، حتى جاءت جريمة قتل خالد سعيد على يد الشرطة، لتكون الموقد الذي نضجت عليه الثورة، فاندلعت في يناير/ كانون ثاني 2011.

تفرض المقارنات نفسها بين خالد سعيد 2010 وعويس الراوي 2020، إذ لا يفصل بين الواقعتين، فقط، عقد من الزمان، ولا المسافة الهائلة بين العاصمة الثانية الإسكندرية، ذات الأضواء والصخب، ولعوامية، القرية الوادعة الهادئة في أقصى الصعيد، بل يفصل بينهما ما هو أعمق وأخطر، هو مثل الفرق بين الحياة والموت.

في حالة خالد سعيد، كان هناك مجتمع على قيد الحياة. بعد عشر سنوات، يبدو هذا المجتمع ميتًا مع واقعة عويس الراوي، وسواء كان المجتمع قد مات قتلًا  أو انتحارًا، فإن الحقيقة الواضحة بالعين المجرّدة، أن وقائع قتل الشاب الصعيدي، عويس الراوي، برصاص ضابط الشرطة، أمام الجميع، تفوق، في وحشيتها وفظاعتها وشمولها على الأسباب المحرّكة للغضب والثورة، وقائع مقتل الشاب خالد سعيد على يد مجموعة من المخبرين في الشارع.

في الجريمة الأولى، اختبأت النيابة العامة خلف تقرير كاذب للطب الشرعي، يزعم أن خالد سعيد ابتلع لفافة بانجو، كانت في حوزته، حين استوقفه المخبرون، فمات. أما في واقعة عويس الراوي، فقد جرى تأليف بيان يزعم إن الراوي قتل نفسه بسلاحه الشخصي، حين كان يهم بالإعتداء على السلطات ومقاومتها.

هنا بالتحديد، تكمن علامات اطمئنان النيابة العامة والسلطات الأمنية إلى أن المجتمع قد مات، ولن يكون ثمّة نضال أو حتى اعتراض على هذا التلفيق البين، على الرغم من أن الجريمة وقعت على رؤوس الأشهاد: إعدامٌ بالرصاص في صحن الدار أمام الجميع، لأن الفتى الصعيدي الحر غضب لإهانة والده على يد الضابط، بل أن الضابط القاتل شخصيًا، وحسب التقرير الوافي الذي نشرته"العربي الجديد"، أدلى، في أثناء التحقيق معه، بعد مقتل عويس بساعات، بمعلومات تناقض تلك التي تم تأليفها في بيان النيابة، إذ تضمّنت أقواله أن أمر القبض كان لوالد الراوي، ولا يتضمّنه هو، وأنه قاوم السلطات دفاعاً عن والده، الأمر الذي كان يتفق، في مجرياته، مع رواية شهود العيان التي تصبّ في أن الراوي تدخّل للدفاع عن والده، بعد إهانته من الضابط، ولم يستخدم سلاحاً نارياً كان بالفعل في حوزة الأسرة، كما هي الحال في معظم منازل عائلات صعيد مصر.

قبل أن تعلن النيابة العامة تقريرها، مشفوعًا بتهديد الإعلام بنشر أي روايةٍ أخرى للجريمة، اعتقلت قوات الأمن صحافية فور وصولها إلى الأقصر، لتغطية موضوع مقتل عويس الراوي، فانشغل المجتمع المدني والحقوقي كله بمشكلة الصحافية، حتى تم إخلاء سبيلها بعد ساعات من الإحتجاز، وهذا أمر جيد ومطلوب، لكن اللافت أن التفاعل مع قصة اعتقال الصحافية، بسمة مصطفى، سحب مأساة عويس الراوي من التداول، ووفّر لبيان النيابة العامة الذي يبرّئ الجاني، ويدين الضحية، المناخ الكافي لكي يمر من دون أن يستنفرّ أحدًا، أو يحرّك أي شكل من النضال القانوني الجدّي ضد الجريمة، بعيدًا عن مشاركة الجماهير زفرات الأسى على مواقع التواصل الإجتماعي.

باختصار، صارت القضية هي"الحرية للصحافية التي ذهبت لتغطية القصة"، بدلًا من"القصاص والعدالة لعويس الراوي"، لتتأكد مجدّدًا براعة السلطة في تحويل مجرى الجدل والنقاش العام، كما تبدّى في هبوط مؤشر الإهتمام بمآلات جريمة اغتيال عويس الراوي، بينما دماؤه لا تزال ساخنة لم تجفّ بعد.

في واقعة خالد سعيد قبل عشر سنوات، كانت النخب السياسية والقانونية تقود المجتمع كله في مسيرات نضالٍ لا تتوقف، طلبًا للعدالة والقصاص، لتصبح والدة خالد سعيد نفسها أمًا وأختًا لعشرات آلاف من الغاضبين، صنعوا من أنفسهم سياجًا مجتمعيًا متينًا قطع على نفسه عهدًا ألا يفلت الجناة بجريمتهم، معلنين "كلنا خالد سعيد" شعارًا وواقعًا يتحرّك على الأرض.

أما في قضية مقتل عويس الراوي، فقد وجد والده نفسه وحيدًا بين براثن سلطات أمنية وقضائية لا ترحم، فخرج بيان النيابة العامة يتضمّن أقوالًا من والد القتيل، تبرئ الضابط الذي أطلق عليه الرصاص، وتكذّب المجتمع، الشاهد على الجريمة، وهذا أمرٌ منطقي للغاية، في ظل حالة الموات المجتمعي التي جعلت تظاهرات فقراء القرى والنجوع تُقابَل بسخريةٍ من بعض أطياف النخب السياسية والقانونية، وأرغمت آخرين، كان من المفترض أن يصرخوا ويهتفوا ضد الظلم، أرغمتهم على ابتلاع ألسنتهم، ليجد السيسي، فيما بعد، الفرصة مواتيةً لكي يردّد أنه سوف "يحاجي" الجميع أمام الله يوم القيامة، مجدّدًا التأكيد على جهله بالقراءة والكتابة، من دون أن يسأله أحد: كيف ستحاجي عويس الراوي وآلاف من المقتولين في عصرك السعيد أمام الله، لتتحقّق، مرة أخرى، مقولة صلاح عبد الصبور: هذا زمن الحق الضائع

لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله

ورؤوس الناس على جثث الحيوانات

ورؤوس الناس على جثث الحيوانات

فتحسّس رأسك. 

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة