مصانع التصهين: ضجيجٌ وتلوّثٌ ولا إنتاج
إغراقُ "السوشيال ميديا" بشلالاتٍ من التصهين في أعقابِ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، ومن قبله المسؤول العسكري الأبرز في المقاومة اللبنانية، الشهيد فؤاد شكر، لا يعبّر في أي حالٍ عن واقعِ الإنسان العربي الحقيقي، بل هي محاولة لم تتوقف يومًا منذ عشر سنوات لصناعةِ مناخٍ كاذبٍ وكارهٍ لفكرةِ المقاومة. وتلعبُ هذه المحاولة على الطائفيّة والشوفينيّة في توقيتٍ واحد، بحيث يبدو الأمر وكأنّ الشعب العربي منقسم بالتساوي بين من يعرفون العدو الحقيقي ومن يعرفون كيف يتكسّبون من توجّهٍ رسميٍ عربيٍ، يُعادي المقاومة ويطلب التطبيع حثيثاً.
منذ سنوات، وفي ذروةِ الاندفاع نحو مرحلةٍ جديدةٍ من التطبيع العربي الإسرائيلي، بدا أنّ ميادين "السوشيال ميديا" قد احتلّتها أنظمة ومؤسّسات تحاول افتراس وجدان الإنسان العربي، بحيث يصبح مؤهلًاً لمرحلة ما بعد كامب ديفيد الثانية، التي جمع بها دونالد ترامب الإمارات والبحرين والكيان الصهيوني.
قلت في ذلك الوقت، إنّ مصطلح "المتصهينين العرب" يبدو غير دقيق في وصف غلاة المطبّعين الناطقين بلغة الضاد... أظنّ أنهم "صهاينة مستعربون" كانوا مزروعين بيننا في غفلةٍ منّا، ذلك أنّ مستوى جديداً من محاولةِ صهينة الذات العربية قد جرى تدشينُه بعنفٍ شديد، عبر حملةٍ موسّعة قادها حكام وفقهاء سلاطين، وخدم ثقافة وإعلام ومهرجانات فنيّة، في عمليةٍ استهدفت الحفر تحت المقدّسات، لهدمها وإنهاء وجودها المعنوي في الوجدان العربي، واستؤنف المخطّط الأخطر الذي كان يسير بخطىً محسوبة، عبّر عنها بوضوح الباحث يوسف زيدان، حين شرع في تدمير المسجد الأقصى، معرفياً وتاريخياً، معترفاً في تسريبٍ مسجل بأن ذلك يأتي في إطار المشروع السياسي الذي من أجله تمّ تمكين السلطة الجديدة في مصر.
في هذا المناخ الاصطناعي الكريه، يبرعُ الصهاينةُ وحلفاؤهم وزملاؤهم من الرسميين العرب في حروب "السوشيال ميديا"، بغرض إلحاق الهزيمة بجمهورِ المقاومةِ لدفعه دفعًا إلى التسليم بأنّ الغلبة باتت للتيّار المُضاد، الذي لا تجد له أثرًاً على الأرض، بل يتم استمطاره صناعيّاً في الفضاء الإلكتروني والمنابر الإعلامية الخاضعة للنظم الاستبدادية العربية.
في ذلك اسأل نفسك: هل سمعت عن تظاهرةٍ شعبيّةٍ في أيّ عاصمةٍ عربيّةٍ خرجت تهتفُ ضدّ المقاومة وتطالب بالتطبيع مع الكيان الصهيوني فقمعتها أجهزة الأمن؟ لم يحدث ذلك أبدًا، بل أنّه لا يحدث حتى في عواصم الغرب المنحاز للكيان الصهيوني، إذ لا تمكن مقارنة الحشود الهادرة التي تخرُج على مدى عشرة أشهر رافعةً أعلام فلسطين، ببعض المحاولات التافهة من مجموعات ضئيلة من اليمين الصهيوني التي تخرجُ بهدف التشويش على الغضب العالمي من أجل فلسطين.
تُنتج هذه المقارنة يقيناً راسخاً بأنّ ما تجده على مواقع التواصل الاجتماعي لا يعني فساد الروح العربيّة وانهيارها واستعمارها بأمواجٍ من التصهين الإجباري، تشرفُ عليها جهات رسميّة عربيّة، تودّ لو أنّ مقاومة غزّة اجتُثّت من فوق الأرض كي تنفتحَ الطرق أمام قاطرات التطبيع المنتظرة لإشارة الانطلاق. ويعمّق هذا اليقين بأنّ الشعب العربي لا يزال يحتفظُ بمناعته ضدّ التصهين، وأنّ نحو 50 عاماً من المحاولاتِ انقضت من دون أن يتحقّق ذلك الذي حلم به صنّاع كامب ديفيد الأولى، عندما قرّر عرب السلام الزائف أن يرفعوا الحرج عن الضمير الأوروبي، فبدأوا ما يمكن اعتباره عملية "تحرير الضمير العالمي من عقدة الإحساس بالذنب تجاه فلسطين" بالذهاب في مساراتِ تفاوضٍ، أو بالأحرى تفريط، دشّنها أنور السادات في كامب ديفيد، ثم توالت الهدايا العربية للكيان الصهيوني وبالتبعيةِ للضمير الأوروبي، في مدريد وبعدها أوسلو الأولى والثانية، ثم بما تسمّى المبادرة العربية في بيروت، حيث كان عنوان القضية حتى ذلك الوقت هو"الصراع العربي الإسرائيلي" حتى انتهينا، الآن، إلى خروج العرب من القضيّة، التي تحوّلت إلى مجرّد "معاناة مجموعة من البشر يطلق عليهم اسم الفلسطينيين داخل دولة حليفة وصديقة لمعظم هؤلاء العرب تسمّى إسرائيل"، وهي الحالة التي تخلّى فيها العرب عن كونهم أطرافًا في الصراع من أجل استعادة حقوق دولةٍ شقيقةٍ، إلى مجرّد وسيط تفاوضي، متحيّز وغير نزيه، بين طرفين، أحدهما، برسم القرارات الدوليّة الموروثة، احتلال وعدو، والثاني كان شقيقًا فصار والعدو، بالنسبة إليهم سواء.
الشاهد أنّ هدير مصانع التصهين يملأ الدنيا ضجيجًا وتلوثاً سمعياً وبصريّاً، لكن من دون إنتاج تلك السلالة المتوهمة من "المواطن العربي المتصهين".