السيادة في تونس للرئيس وليست للشعب
تعيش تونس هذه الأيام على وقع انتخابات تشريعية هي الأولى من نوعها منذ استقلال الدولة، إذ لم تشهد البلاد من قبل انتخابات على الأفراد، بل كانت المحطّات الانتخابية السابقة، بمختلف سياقاتها السياسية، تجري باسم الأحزاب التي تخوض حملاتها التعريفية مع المواطن، انطلاقاً من برامجها الوطنية والجهوية. هي انتخاباتٌ برلمانيةٌ استثنائيةُ من حيث الشكل، وأيضاً من حيث السياقات والمضامين.
كانت دواعي حلّ البرلمان السابق وأسبابه، حسب رئيس الجمهورية، تمثيله خطرا داهما، إلّا أنّ ملامح البرلمان المقبل الذي وضع قيس سعيّد قوانين لعبته والوصول إليه، وحدّد/ ضيّق صلاحياته، بما يتماشى مع رغبته (سعيّد) الفردانية في الاستحواذ على كلّ السلطات، تبدو أسوأ بكثير. ويتجلى ذلك من خلال خطابات مرشحين عديدين جمعتهم الشعبوية وشتّتهم دوائرهم الانتخابية، في ظل مقاطعةٍ انتخابيةٍ واسعة من جل الأحزاب وعزوف سياسي مواطني بسبب تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل وعود رئيس الجمهورية بالصعود الى العلوّ الشاهق وصناعة التاريخ الذي لم يحصّل منه التونسيون سوى صعوبات في التنفس وإصابةٍ بالدوار بعد الركض اليومي خلف السكر والحليب ومواد أساسية عديدة مفقودة.
مقاطعة انتخابية واسعة من جل الأحزاب وعزوف سياسي مواطني بسبب تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية
كذلك تخلّلت تنظيم هذه الانتخابات خروقات عديدة ماسّة من حرية التعبير ونزاهة الانتخابات، رغم غياب التنافسية الجادة، إذ يجدر الذكر أن دوائر عديدة خلت من مرشّحين إلى جانب دوائر أخرى لم يترشّح فيها سوى شخص واحد، إذ تمثلت هذه الخروق في استحواذ هيئة الانتخابات على صلاحيات الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري، ومن ثم الضغط على وسائل إعلام عديدة حاولت التحلي ببعض الموضوعية في نقل ظروف الحملات الانتخابية ومضامينها إلى أن بلغ الأمر حدّ إرسال هيئة الانتخابات تهديدات لمؤسسات إعلامية بالتتبع القانوني وفق المرسوم الرئاسي عدد 54 سيئ الذكر المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
كلّ هذه السياقات وغيرها من المؤاخذات القانونية على مسار قيس سعيّد منذ انقلاب 25 يوليو (2021) جعلت البرلمان الأوروبي يعلن عن مقاطعته مراقبة هذه الانتخابات. لكنّ الأهم من كلّ ما سبق ذكره أنّ هذه الانتخابات تمثل انتكاسة كبيرة في تاريخ الجمهورية التونسية، وفي بناء مسارها الديمقراطي، إذ شتتت طريقة الاقتراع المعتمدة الأصوات والقضايا، وفرّقت المواطنين، ومزّقت الوحدة الترابية بين صراعات محلية ضيقة ليست من مشمولات مؤسّسة وطنية تشريعية ورقابية.
صحيح أنّ للمواطن التونسي انطباع سلبي على الأحزاب والممارسة السياسية عموماً، لكنّ وجودها كان عنصر تفاعل إيجابي/سلبي وسبباً في إيجاد ديناميكية حوارية تشاركية بين جميع الأطراف
يفتح هذا الانشغال من المرشّحين بالتفاصيل اليومية التي تعود للسلطة التنفيذية في أغلبها الباب أمام من رسم قانون اللعبة للتشريع وتهميش أهم المؤسسات السيادية. كما أنّ المناخات المصاحبة للانتخابات أفضت إلى حالةٍ من العزوف المواطني والتخلي عن أهم الحقوق والواجبات السياسية والمدنية التي بُذل جهد كثير في السنوات الفارطة لتجذيرها في الوعي المجتمعي والفردي.
غابت الحملات الانتخابية والتنافسية السياسية والنقاشات في الساحات العامة، فغاب معها المواطن واهتماماته بمصير بلاده. صحيحٌ أنّ انطباع لمواطن عن الأحزاب والممارسة السياسية عموماً سلبي، لكنّ وجودها كان عنصر تفاعل إيجابي/ سلبي وسبباً في خلق ديناميكية حوارية تشاركية بين جميع الأطراف، إلّا أنّ الركود السياسي المُحدث قتل هذا التفاعل وغيّب جميع عناصر العملية الديمقراطية، بما يفسح المجال أمام رئيس الدولة وأجهزته للتحكم في المشهد وصياغته كما تهوى أنفسهم.
ويبقى من حق كلّ مواطن تونسي أن يسأل: لماذا نشارك في انتخابات يمكن لشخص واحد بعد ذلك شطبها وإلغاء نتائجها ومخرجاتها بجرة قلم أو بخطاب شعبوي يتلوه على مسامع شعبه ويلخصه بجملة وحيدة: "لقد قررت حلّ مجلس نواب الشعب"؟
التونسيون في دولة السيادة فيها للرئيس وحده وليست للشعب.