السوريون ولعنةُ "الهذيان اللساني السامّ"
مجرّد الحديث عن كرامة الإنسان السوري في الخطاب العالمي اليوم يعني الاستعداد لتلقّي جرعات مهوّلة من العبث اللفظي المُهين، وكأنّ قدرَه المشؤوم أن يعاني من وقاحةِ ورثة الأيديولوجيات البائدة الذين لم يجدوا مُتنفَّساً لقيحهم المكبوت إلّا في فضاء معاناة الشعب السوري المقهور. وما يُدهش حقاً أنّ السقطات الأخلاقية قد خرجت عن نطاق الموضوعية، فغدت الآلام الخرساء مرتعاً للهو والشماتة، وحصناً يتمترس فيه كلّ شتّام وعيّاب، متناسين أنّ الحرب ليست نُزهة للاسترخاء، وحقيقة أنك لا ترى دم ضحيتك لا يعني أنك لم تقتلها. على التوازي ... من الجليّ أنّ التنمّر السياسي بات ملمحاً رئيساً وجامعاً في منظومة التفاعل العالمية، على الرغم من تعارضه مع القيم الإنسانية، فهو مخزونِ "سلاحٍ" احتياطي أثبت نجاعته التدميرية في الصراع السياسي المحتدم، يتمّ الالتجاء إليه كلما اقتضت الضرورة. ومُتّفق عليه أنّ التنمّر، بمفهومه العام، يندرج تحت مصطلح "الصعلكة الأخلاقية" الذي أعاد تشكيل الذهنية الجمعية ووظيفتها الإدراكية ضمن حالةٍ استلابيةٍ وتشيئية ثم إعادة عرضها وفق أهدافها، ليغدو مصدراً لإنتاج الشرور المروّعة، باعتباره أحد الأعراض المرضية للنزاعات والتوترات، وأيضاً "براديغم" في التواصل في عالمٍ مفعمٍ بالتعتيم وعمى البصيرة وغياب العقلنة في الحقل السياسي.
قراءة مسار العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ سورية تجعل المقدّمة السابقة ناقصة، لأنّ حقائق عديدة لا بدّ من عرضها لكي تتّضح صورة المشهد السوري المُستنزف كاملاً. بجملٍ مكثّفة جداً: من سوء الأقدار أن يتحدّد مصير البلاد الراهن على ضوء حروب الوصاية التي فُرضت على السوريين منذ زمن بعيد، منها ادّعاء فرنسا لنفسها حقّ حماية المسيحيين الموارنة، وادّعاء الحكومة الروسية لنفسها حقّاً مماثلاً في حماية المسيحيين الروم الأرثوذكس، بينما استأثرت بريطانيا بعلاقاتٍ طيّبة خصوصا مع الدروز واليهود. من جانب آخر، جلبت الحماية الأجنبية كراهية عميقة من المسلمين السُّنة تجاه الأقليات الذين اعتبروا بعضهم، كما يقول المؤرخ ألبرت حوراني، (خونة محتملين، ومصدر ضعف، وعملاء للسياسة الأوروبية). هكذا بدأت حكاية الشِقاق السوري، وأصبحت فكرة الوطنية تُقاس على مقاس الجماعات الصغرى، وليس على مقاس الفضاء السياسي والاجتماعي العام. زاد الطين بلّة استلام حزب البعث السلطة ليتعزّز نظام "الشعب المتشرذم المغلق"، بعدما أنشأ الأسد الأب نظاماً فاسداً متنمّراً يحكم مجتمعاً مهشّماً ينضوي على كانتونات تختلف أهدافها ولا تشترك في أساليبها.
تمدّد الممارسات غير المنضبطة واتساع نطاقها لا يُحدِث فقط نكوصاً بشرياً أخلاقياً، بل وإطلاق العنان لنوعٍ من الفوضوية في معابثة اللغة السياسية
وفي ظلّ انتقال سورية بين احتلالين، عثماني وفرنسي، بدايات القرن السابق، وانتهاء بالدولة الأسدية "المسخ"، وفي مجتمع مقهور قائم على الأبوية، خرج التنمّر عن بعده الفردي، ليأخذ أبعاداً اجتماعية وسياسية أوسع، فأصبح من أشكال الاستبداد الصريح، ومن الذخائر الفاعلة المدمجة في الفعل السياسي الجمعي، متى أحسّ الحاكم أنّ كرسيّه المقدّس بات مهدّداً. ولا شك في أن أنماط التنمّر العديدة التي انتهجها نظام الأسد هي ما أوصل السوريين إلى ما هم عليه من أزماتٍ مزمنة. ولنا في "الضحكات الصفراء" التي لم تفارق إطلالات الأسد، حتى وهو يعتلي أنقاض البلاد التي تشهد خرابها الأخير أدلّ مثالٍ على هذا. بالتالي، من الطبيعي أن تندلع معارك التنمّر بين السوريين أنفسهم، لتطاول قائمة الأحكام المسبقة والتصوّرات المعلّبة عن الآخر، وتتجاوز البعد المناطقي إلى الدين والمذهب واللون واللهجة...، فيضرب بها المتنمّرون سهامهم التنميطية في ساحةٍ خصّصت للرمي العشوائي، وازدادت هذه الظاهرة مع الحرب والتهجير التي عزّزت حالات التعصّب والنكوص إلى الدائرة الضيقة، بينما تنعكس هذه التصوّرات سلبياً نحو تفتيت المجتمع، الذي هو أحوج إلى التماسك في محنته، بين "الشامي المبندق" و"الحلبي المجقجق"، و"الحمصي الأجدب"، و"الساحلي الشبّيح"، والتي جعلت المدن السورية أشبه بجزر معزولة تفصل بينها دماء تندلق حارّة من الجروح المفتوحة على امتداد العدم.
بطبيعة الحال ... مارس النظام السوري التنمّر باتباع استراتيجية القمع والترهيب تزامناً مع سياسة العزل الاجتماعي، ليُسبِغ على شعبه العاجز صفات التخلّف والهمجية والغباء والطائفية والأصولية، بما يمنح الأسد حقّ الوصول إلى الحكم الرشيد الذي كان لا يمكن تحقيقه لو امتلك شعباً أفضل، على حدّ تصوّره. بالتالي، كلّ ما قام به من إجرام ضد شعبه الأعزل يبدو مبرّراً وطبيعياً، لأنّ الخلل يكمن في الشعب الجاحد الذي تجب تربيته والعمل على تصفيته، وإيجاد "مجتمع أكثر تجانساً"، وهي عباراتٌ خرجت من فم الأسد شخصياً في عدّة خطاباتٍ ولقاءاتٍ إعلاميةٍ سابقة له. وهكذا فتح المجال للعالم بأسره للتطاول على شعبٍ جلّ ما تمنّاه حياة كريمة، ولسوء الحظّ استبدل الحلم الوردي بواقع أسود مليء بالعذابات والمهاوي النفسية.
أشد الدروس إيجاعاً لفرط "سخريتها" هو ما يتجلّى في الحمّى المُستعرة لحملات التنمّر التي تطاول السوري الذي ثار لأجل الكرامة
بالتساوق مع ما تقدّم، يبدو أنّ سموم أنظمة الإبادة والتوحّش لا تنحصر في حيّزها الجغرافي فقط، بل لها امتداداتُها وجذورُها العقدية التي تستمدّ منها حيويّتها وقدرتها على الثبات. وعليه، فإنّ استمرار ممارسة ما سأسمّيه تجاوزاً "الهذيان اللساني السامّ" على السوريين، مذ أعلنوا شقّ عصا الطاعة على الطغمة الحاكمة، وامتهان العالم معاناتهم وتجاهل مأساتهم، إنما هو لعنة لا تقلّ فتكاً وقذارةً عن مسعى نظام الأسد في استهداف أرواحهم واغتصاب حقوقهم ومستقبل أبنائهم، ليس بداية بالمعايير المزدوجة التي سوّقها صحافيون مشاهير في وسائل إعلام غربية عديدة بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ قال أحد المحللين على قناة "بي إف إم" الفرنسية، وبوقاحة عنصرية مستفزّة: "لا نتحدّث هنا عن السوريين الفارّين من قصف الأسد المدعوم من بوتين، بل عن أوروبيين يغادرون في سياراتٍ تشبه سياراتنا لإنقاذ حياتهم". ولن يكون آخرها بالطبع ظهور إعلامية لبنانية في لقاء تلفزيوني، اشتهرت بعدائها السوريين والتماهي مع نظام الأسد في مواقفها منهم، مدفوعة بالحقد العنصري للتعبير عن "جهل" اللاجئ السوري "القذر" و"تخلّفه"، وعدم معرفته بقواعد الطعام والإتيكيت.
جدير ذكره، منذ ما يزيد على 20 عاماً نشر عالم الاجتماع البريطاني، أنتوني غيدنز، كتابه "عالم منفلت"، واصفاً عالمنا وكأنه يجري من دون أن يسيطر عليه أحد، ليشهد ظواهر غريبة وشاذّة، أهمها ما أطلق عليها ظاهرة "التنمّر السياسي" التي تدلّ على أنّ تمدّد الممارسات غير المنضبطة واتساع نطاقها لا يُحدِث فقط نكوصاً بشرياً أخلاقياً، بل وإطلاق العنان لنوعٍ من الفوضوية في معابثة اللغة السياسية، ما ينتجُ عالماً مخرّباً وشقياً يعجّل بأُفُول النظام العالمي وفنائه. علينا الجزم أنه، وفي ظلّ التفكك المجتمعي السوري ذي الصبغة الطائفية الفاقعة، والذي نراه على نحو أشدّ وضوحاً في المآلات العدمية الراهنة، إذا كان للتاريخ دروسه الخالدة، فإنّ أشد الدروس إيجاعاً لفرط "سخريتها" هو ما يتجلّى في الحمّى المُستعرة لحملات التنمّر التي تطاول السوري الذي ثار لأجل الكرامة، فما كان من العالم إلا أن مرّغه في وحل القهر والذلّ، وجعله عبداً لكلّ السلوكيات السلطوية البراغماتية، مرهوناً بالكيفية التي ستستقرّ عليها خريطة بلاده التي تهندسها مصالح القوى المتصارعة، بعدما بات حال سورية اليوم كحال أوروبا ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي وصفها رئيس الوزراء البريطاني السابق، ونستون تشرشل، بأنها "كومةٌ من الأنقاض، ومقبرةٌ، وأرضٌ خصبةٌ للأوبئة، والكراهية".