السوداني في البيت الأبيض... استضافة أم "محاكمة"؟
قد تُشكّل استضافة البيت الأبيض رئيس الحكومة العراقية محمد شيّاع السوداني، في منتصف إبريل/ نيسان الحالي، عنواناً بارزاً في مجمل التغييرات والتحوّلات التي يمكن أن يشهدها الوضع العراقي في المرحلة المقبلة، سواء من ناحية العلاقة بين بغداد وواشنطن أو على صعيد التشكيلة الحاكمة في العراق. ومع أنّ الخطاب الرسمي في العاصمتين بشأن الزيارة يعكس وجهات نظر غير متطابقة، بل توحي بوجود خلافات واختلافات في قضايا مهمة عديدة، إلا أنّ الطرفين يحرصان على إبقاء نبرة التفاؤل ماثلةً إلى حدّ ما، والتعويل على هذه النبرة في فك الاشتباك بين ما هو حاصل وما يمكن الوصول إليه، مع اعتراف الجانبين بأنّ أمراً كهذا قد يتعذّر إنجازه بسهولة في المدى المنظور.
وإذا كانت الحقيقة تكمن في التفاصيل، كما يقال، فإنّ الشيطان قد يكمن فيها هو الآخر، ليظهر عند الحساب، وهذا ما توحي به مذكّرة السيناتور الجمهوري توم كوتون وفريقه، التي وجّهها إلى الرئيس جو بايدن، ورأى فيها أنّ "استضافة" السوداني في البيت الأبيض ينبغي أن تتحوّل إلى "محاكمة" على خلفية الارتباط الحميم بين حكومة بغداد وحكومة "الوليّ الفقيه" في طهران، إذ يستخدم العراق الدولار الأميركي لإنقاذ الاقتصاد الإيراني من سيف العقوبات، في الوقت الذي تواصل فيه إدارة بايدن إعطاء الضوء الأخضر لحكومة بغداد لاستيراد الكهرباء والغاز من إيران، ولتمويل مليشيات الحشد الشعبي، ومن بينها أربع جماعات "إرهابية" بتصنيف الولايات المتّحدة، بما يزيد على ثلاثة مليارات دولار سنوياً، بحسب كوتون، الذي رأى في ذلك "استرضاءً لإيران على حساب حلفاء الولايات المتّحدة". ويدعم كوتون، في مذكّرته، مطالب حكومة إقليم كردستان من الحكومة الاتحادية بتمكين الإقليم من تصدير النفط، وإلزامها بتمويله.
معظم القادة السنّة، وكذلك الأكراد، لا يدعمون مطلب الانسحاب الأميركي من العراق، ويرون في بقاء الأميركيين ضمانةً لحمايتهم من التوغّل الإيراني في البلاد
تظلّ القضية الأكبر في حوار السوداني بايدن من دون أفق واضح للحل، وهي وجود 2500 عسكري أميركي على أرض العراق، بمهمّات قتالية غير معلنة تقتضيها ضرورات الأمن القومي للولايات المتّحدة، وتحدّدها لهم قيادتهم، ويسمّيهم العراق "مستشارين". هؤلاء هم من تسعى إيران إلى إخراجهم، وتدفع وكلاءها إلى المطالبة بذلك لأنّها ترى فيهم عقبةً أمام طموحاتها في السيطرة على العراق والمنطقة، وقد تأكّد أنّ الولايات المتّحدة ترى ضرورة بقاء قواتها في العراق جزءاً من استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط، كما أنّ معظم القادة السنّة، وكذلك الأكراد، لا يدعمون مطلب الانسحاب، ويرون في بقاء الأميركيين ضمانةً لحمايتهم من التوغّل الإيراني في البلاد، الذي بلغ حدّاً خطيراً من الهيمنة المباشرة على القرار العراقي. كما تأكّد أنّ واشنطن أبلغت بغداد بأنها حتى في حال سحب جنودها فإنّها لن توقف الهجمات الرادعة لنشاط المليشيات التي تتعرّض للقواعد أو المنشآت الأميركية في أي مكان، وهدّدت بأنّها ستكون حرّة في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان مصالحها في العراق والمنطقة، ودعت حكومة بغداد إلى فهم التبعات المالية والاقتصادية التي ستترتب على العراق في حال الانسحاب، كما أوضحت أنّ عملية الانسحاب قد تستغرق أشهراً أو ربما أعواماً، وآخر ما صدر عن واشنطن بهذا الصدد تغريدة سفيرة الولايات المتّحدة في بغداد ألينا رومانوسكي بأن "مهمة القوات الأميركية في العراق في مكافحة الإرهاب لم تنته بعد". لم يردّ أحد من السياسيين العراقيين على التغريدة، إلا أنّ أحد قادة المليشيات أنذر بأنّ زيارة السوداني إلى واشنطن إذا لم تتكلّل بالاتفاق على سحب القوات الأميركية من البلاد، فإنّ ذلك سيفتح أبواب جهنم على مصراعيه.
نحن إذاً أمام مشهد سريالي يوضّح طبيعة الأوضاع الماثلة في العراق، والتي لا يمكن التنبّؤ بمآلاتها بسهولة، وقد تؤدّي إلى معركة "كسر عظم" بين وكلاء إيران، النافذين في حكومة السوداني، والسوداني نفسه الذي يُتّهم بأنّه يميل إلى الولايات المتحدة، ويطمح أن يحصل على "تزكية" أميركية تؤهّله للحصول على ولاية ثانية. وفي هذه الحالة، سيصطفّ معه قادة السنّة والأكراد فيما سيتفتت "الإطار التنسيقي"، وينحسر ظلّ زعيم "دولة القانون" نوري المالكي، الذي كان يردّد دائماً: "ما ننطيها"، أي أنّه لن يسمح لغيره بالاستحواذ على المشهد.
وبالمختصر المفيد، ستبقى حالة السيلان في المواقف والاتجاهات والسياسات المعلنة في العراق من دون حسم فترة أطول.