السلطوية في تونس وتشويه اتحاد الشغل
شنّت السلطة في تونس ومؤيدوها، أخيراً، حملة هجوم واسعة ضد الاتحاد العام للشغل، على خلفية مواقفه من رفض المشاركة في اللجنة الاستشارية الاقتصادية والاجتماعية للحوار الوطني، ومطالبته الحكومة بتنفيذ تعهداتها برفع الأجور. وتصاعدت الحملة بما فيها من تشويه وتخوين، منذ إعلان الاتحاد في 30 مايو/ أيار قراره بالإضراب العام، والذي نفذه فعلياً في منتصف شهر يونيو/ حزيران، بعد فشل جولات التفاوض. وشهد الإضراب مشاركة واسعة تجاوزت نسبة 96% في أكثر من 150 مؤسسة عمومية، ما يعني شموله معظم عمال القطاع العام، ما أدّى إلى تعطيل مظاهر الحياة، وقد تعطّل العمل بشكل جزئي في القطاع الخاص ضمن آثار الإضراب الذي شمل قطاع النقل.
الإضراب الضخم، بما شكّله من قوة تأثير، يحمل دلالاتٍ مهمة في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية حالياً، خصوصاً إذا ما قورن باحتجاجات القوى المناهضة للمسار السياسي، والتي ما زالت المشاركة فيها محدودة، كما يؤشّر إلى غضبٍ كامن في الشارع التونسي، حيث تعد القضايا الاقتصادية والاجتماعية مرتكزاً أساسياً، وستلعب دوراً مؤثّراً وفاعلاً مستقبلاً. ويتّضح من المشهد مواجهة بين السلطة والحركة العمالية، نظراً إلى مخطّطات حكومية تسعى إلى إقرار سياسات اقتصادية، منها تقليص الدعم، خصوصاً للطاقة، وتقليص عدد العاملين في القطاعات العمومية، وهيكلة بعض المؤسسات، بغرض تخفيض بند الأجور (حسب بيان لصندوق النقد خفضت أجور عام 2020 بمقدار 150 مليون دينار عبر وضع حدود للتعيينات والترقيات وساعات العمل). وهذه الخطوات تستهدف خفض عجز الموازنة، وهي ضمن اشتراطات صندوق النقد لإقراض تونس أربعة مليارات دولار، فضلاً عن سياساتٍ نقديةٍ كمرونة سعر الصرف وتوجيه أسعار الفائدة قصيرة الأجل. وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يمرّر القرض بسهولة في ظلّ مواجهة بين الحكومة واتحاد الشغل، خصوصاً أنّ الصندوق شدّد على كسب تأييد أطراف المجتمع، بينما كرّر الاتحاد رفضه برنامج الإصلاح الاقتصادي، واعتبر أنّ الحكومة معينةٌ بمرسومٍ مؤقت، وبالتالي تفتقد الشرعية للخوض في تفاوض من هذا النوع.
المؤشّر الثاني أنّ الحركة النقابية بقيادة الاتحاد العام للشغل ما زالت نابضةً وقويةً ولها قدرة على التأثير، وأنّ حملة التشويه والتخوين لقيادة الاتحاد ومحاولة فصله عن قواعده عبر نقدٍ مكثف لم تنجح، بل ربما زادت التماسك بين قيادة الاتحاد وكوادره الوسيطة والقاعدية، وبيّنت توجّهات مؤسسة الرئاسة من المنظمة الوطنية الأكبر في البلاد.
تعيد السلطوية الناشئة في تونس استخدام قاموس الثورة المضادّة، كما شعار العمال يعطلون حركة الإنتاج، ويضعون العصا في عجلة الإنتاج
ثالثاً، يتضح من مشهد الإضراب أنّ هناك مواجهة بين السلطة والحركة النقابية، تجلّت، بشكل صريح، مع تلميحات قيس سعيّد وهجومه على الاتحاد وأمينه العام نور الدين الطبوبي في أكثر من خطاب، ما يكشف موقع السلطوية وموقفها ومظهرها السياسي ومضمونها الاقتصادي المعادي للحق في التنظيم، ضمن خصومةٍ مع الفاعلين في المجال العام، طالما لم ينضمّوا لقطار السلطة، لذا كان الموقف متعسّفاً ضد الاتحاد، لأنّ الإضراب جزءٌ من العملية الديمقراطية، وضمنها الحق في التعبير والتنظيم. واقتصادياً، يطالب العمال بتأجيل مطالبهم الاجتماعية، لأنّ الظرف الاقتصادي لا يسمح. وهنا تتكشف تناقضات الخطاب الشعبوي، الذي يكرّر الحديث باسم الشعب والثورة، بينما ممارساته ضد المضمون الاقتصادي والسياسي للثورة، وجوهرها ومطلبها الأساسي في الكرامة الإنسانية، والتي لا يمكن أن تبنى من دون نظام ديمقراطي مدني، ولا إمكانية لحصول العمال على حقوقهم من دون خيارات ديمقراطية، كما أشار الطبوبي في خطابه إلى جمهور من أعضاء الاتحاد.
رابعاً، تعيد السلطوية الناشئة في تونس استخدام قاموس الثورة المضادّة، كما شعار العمال يعطلون حركة الإنتاج، ويضعون العصا في عجلة الإنتاج، وهي مقولات أحزاب رجال الأعمال، وأذناب زين العابدين بن علي ضد مطالب رفعتها الاحتجاجات العمالية، منذ اندلاع الثورة، وضمنها الحق في الأجر وعلاقات عمل مستقرة، والحق في التنظيم. ويكشف المشهد أنّ قيس سعيّد في مراهناته ومعاركه يتخندق مع أطراف الثورة المضادّة ضد الحركة النقابية، ويصدر خطابات متعدّدة ومتناقضة في الوقت نفسه.
خامساً، تقوم السلطة في تونس من أجل ترسيخ وجودها بعملية مساوماتٍ دائمة، وهذا يظهر في موقفها مع اتحاد الشغل، كما موقفها مع مكوّنات المجتمع المدني والهيئات الوطنية للمشاركة في حوار جمهوريته الجديدة. لقد طلب من اتحاد الشغل المشاركة في الحوار الوطني ضمن اللجنة الاقتصادية الاستشارية، وهو ما يعني عملياً، شكلاً من المشاركة السياسية التي تريدها السلطة، وفي الوقت ذاته، حين يطالب الاتحاد بتنفيذ نتائج مفاوضات سابقة بشأن رفع الأجور، ويرفض خطط خصخصة الشركات.
الإضراب الأخير يؤشر إلى أن هناك تململا في أوساط الطبقة العاملة وأنها على استعداد للتحرك وفي خط مواجهة مع رؤية قيس سعيد
ويعتبر قيس سعيّد ومؤيدوه أنّ مطالب الاتحاد ذات طابع سياسي وانتهازي يضغط على الدولة، وأنّه يتجاوز دوره النقابي، حين يتحفظ على شكل الحوار ومساره. وهكذا تتلاعب السلطة بالمفاهيم حسب مصالحها، وتفصل ما بين سياسي واجتماعي، وتدمجهما حين تريد، رغم أنّ طرح الاتحاد واضح ومعلن، أنّه يتحفظ على المسار السياسي، وما يحمله من توجّهات اقتصادية واجتماعية. وفي إطار ذلك، يرفض استبعاد القوى السياسية، وتفريغ الديمقراطية من مضمونها، لأنّ ذلك يشكل موضعاً خطراً على الطبقة العاملة، وتفقد بذلك قدرتها على التحرّك والتنظيم، وستتضرّر حتماً من برنامج إصلاح اقتصادي مؤلم يزيد الأعباء الاجتماعية في ظل أزمة تصاعد التضخم (الأعلى منذ ثلاث سنوات) واستمرار معدلات ارتفاع البطالة.
وإجمالاً، يمكن القول إنّ الإضراب الأخير يؤشر إلى أن هناك تململا في أوساط الطبقة العاملة وأنها على استعداد للتحرك وفي خط مواجهة مع رؤية قيس سعيد، وأن هناك مفارقة بين المشاركة النشطة والواسعة في الإضراب، ما يزيد عن نصف مليون عامل، ومحدودية المشاركة في الاحتجاجات السياسية المناهضة للقرارات الاستثنائية، لكن يمكن أن يلتقي الفعل الاحتجاجي السياسي والاجتماعي بما يحمله من مضامين مشتركة. كما يشير الإضراب إلى وجود حالة رفض لمضمون السلطة اقتصادياً بدرجة أعلى ربما من المسار السياسي الذي تتفاوت بشأنه المواقف.
ويبرز هنا دور اتحاد الشغل مستقبلاً في عرقلة مسار السلطوية، بما يحمله من خطابٍ يربط الاقتصادي بالسياسي، ومن أطر وهياكل قاعدية ممتدّة في ولايات تونس، قادرة على الحركة والتعبئة، غير خطابٍ ذكيٍّ أطلقه قاده نقابيون، في مقدمتهم نور الدين الطبوبي، والذي كان محلّ استهداف من وسائل إعلام ومؤسسات الدولة. ويعيد المشهد أيضا التذكير بأهمية اتحاد الشغل وأدواره التاريخية منذ تأسيسه، ومروراً بمحطّات الثورة، وقدرته على الفعل والتأثير، وإدارة حوار وطني بين مكوّنات المجتمع التونسي. وهذا ربما يكون مستقبل أحد السيناريوهات المحتملة لخروج تونس من أزمتها، لأنّ في مقدور الاتحاد أن يجمع الفرقاء السياسيين في مواجهة العناد والصلف اللذين يمارسهما قيس سعيّد في قيادته قطار السلطة الذي يريد دهس كلّ القوى السياسية.
يعتبر المنشور رقم 20 الصادر عن رئاسة الحكومة في ديسمبر الماضي، أحد الدلائل على ضيق السلطة بأي شكل تنظيمي فاعل ومؤثر
وهناك علاقة وثيقة بين الديمقراطية وحقوق العمال، ويمكن رؤية نهج الحكم في شلّ فاعلية المجتمعين السياسي والمدني، وإضعاف المنظمات الوطنية التونسية، والتقليل من قوتها لصالح السلطوية، طالما لم تخضع للسلطة، ويظهر ذلك في ممارساتٍ وهجومٍ مستمرّين على الصحافيين والمجتمع المدني والأحزاب، وفي ما يخصّ الاتحاد من حملة تشويه ومحاولة احتواء، وتفريغه من دوره الفاعل مفاوضا يمثل العمال. وفي السياق، يعتبر المنشور رقم 20 الصادر عن رئاسة الحكومة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أحد الدلائل على ضيق السلطة بأي شكل تنظيمي فاعل ومؤثر، إذ سعى المنشور إلى تقليص نفوذ الاتحاد وتعميق مركزية السلطة في التفاوض، مشترطا ألا تجري المفاوضات بين العمّال وهيئات الحكومة من دون أن تمرّ على رئاسة الحكومة، والتي تعني عمليا في ظل وضعية حكومة كتاب للدولة أن قيس سعيّد هو من يفاوض التنظيم النقابي، وهو المنشور الذي كان محلّ رفض الاتحاد، وتم إبداله بمنشور رقم 10 للعام 2014، وهو ما اعتبره الاتحاد دليلا على سوء نية السلطة، والتوجه نحو التراجع عن الحقّ النقابي، وهو بالطبع ليس منفصلاً عن سياقات التضييق على الفاعلين في المجال العام، حتى وإنْ كان مشروع الدستور ينصّ على حرية العمل النقابي والحق في الإضراب، إلّا أنّ النص على ذلك في ظل ممارسة قمعية يهدّد الحق في الإضراب، ضمن مهدّدات الديمقراطية. وعموما يظهر المنشور نوعا من الانتقام من الاتحاد، لأنه تحفظ على المسار السياسي والسياسات الاقتصادية التي طرحتها الحكومة. وأخيراً، لا ضمانة لحقوق العمال الاقتصادية والاجتماعية من دون الحق في التنظم والتعبير، وضمنه الحق في الإضراب. ويبقى أنّ دخول الاتحاد بثقله في الأزمة الحالية سيعيد التفكير لدى السلطة، كما سيمنح المعارضين رؤية أوضح بشأن اتجاهات الرأي في تونس.