السفاح المُسلّي والظريف
من الطبيعي أن تقشعرّ الأبدان أمام مشهد قتل وسفك دماء على الشاشة، حتى ونحن واثقون أنّ ما نراه مجرّد مشهد تمثيلي قد برع الممثلون في أدائه، كما برع خبراء الماكياج والخدع في تصويره، بحيث لا نشك لحظة في أنّ البطلة قد تعرّضت للذبح مثل الخراف بالسكين. لكن من غير الطبيعي أن تصبح جريمة قتل الروح الإنسانية وإزهاقها متعة، ولها طقوسها، ويخرج المشاهدون وهم يقلدونها عبر مقاطع فيديو قصيرة، بدءاً من طقوس السفاح أو القاتل المتسلسل قبل القتل أو بعده، ومروراً بطريقة التخلص من الجثة بدفنها، أو حتى تقطيعها لتصبح لحماً مقدّداً تُحشى به الشطائر، كما فعلت أم السفّاح في مشهد مقزّز. وإن كان لهذا المشهد مغزى، فهو يريد أن يقول لنا إنّ الطفل هو ابن بيئته، وإنّ السفاح ما كان سيصبح كذلك لو لم يرَ بأم عين طفولته مشهد أمّه، وهي تقتل أباه ثم تقطع لحمه وتحوّله إلى حشو لشطائر أبناء الحارة بطريقةٍ شيطانيةٍ لإخفاء جريمتها.
قلنا مراراً وتكراراً إنّ الجريمة لا تبرّر، ومحاولة تبرير تحوّل إنسان إلى قاتل بسبب ظروف أسرية غير سوية مرفوضة، فنحن أمام جريمة فقط، ومن يرتكبها يستحقّ أقسى العقوبة، وإن لم يمنع ذلك الإشارة إلى أنّ مسلسل "سفّاح الجيزة" الذي صوّر لنا السفّاح مسلياً وظريفاً من خلال هوايته وتفنّنه في الطبخ وذوقه الفني في سماع الأغاني والأدعية والأناشيد، فإنّ ذلك الخطأ الفادح ذا الإشارات والأهداف المسمومة لم يخلُ من إشارة ورسالة واضحة وجرس إنذار للآباء والأمهات بخصوص تربية أولادهم، وبأنّ أطفالنا سوف يتحوّلون إلى منحرفين، أو حتى منقادين خلف المنحرفين، إن لم نوفّر لهم الجو الأسري المحبّ والمتفهم، ولم نحتوهم ونحقق لهم أحلامهم ونتركهم لكي يختاروا طريق حياتهم ويرسموا مستقبلهم بأنفسهم، من دون سلطة أو وصاية خانقة منا.
لو تجاوزنا الظروف التي مرّت بها طفولة السفاح "جابر" والإشارة إلى أنه ضحية لأب مدمن للمخدّرات، وما تلا ذلك من ضغوط أسرية أدّت إلى أن تقتل أمه أباه على مرأى منه، فهذه الظروف، على قسوتها، لا تبرّر أن يستهين الطفل حين يكبر بالروح الإنسانية ويهدرها، ولكن بالإشارة إلى إحدى الفتيات اللواتي أوقع بهن السفاح، واسمها زينة، فهي ضحية أب قاسٍ ونرجسي وغير متفهّم، ما أدّى إلى أن تفتح ابنته أذنيها لأول شخص أشعرها بقيمتها وقدرته على تحقيق أحلامها، حتى لو كان هذا الشخص مريضا نفسيا يريد أن يتملكها عنوة، فيخطفها ويحتجزها ويهدّد حياتها، وقد برّرت ذلك بقولها "كنت عايزة اعمل أي حاجة تخليني إمشي من البيت ده...".
في الجانب الآخر، الضابط الذي يتولّى مطاردة السفاح أب فاشل من الدرجة الأولى، لأنه لم يكسب صداقة ابنه المراهق الذي يعاني من فقدان الأم، بموتها في حادثٍ اعتقد الابن أن الأب هو المتسبّب فيه، ما أدّى إلى انحراف المراهق واتجاهه إلى تعاطي المخدّرات مع رفقاء السوء.
على الرغم من كل السمّ المدسوس في أحداث غير حقيقية مأخوذة عن قصة حقيقية لسفاح روّع منطقة الجيزة في القاهرة، بدءا من العام 2015 حتى تم القبض عليه في 2018 ، إلا أن الرسائل التربوية الموجّهة للآباء والأمهات هامة ولافتة، ورغم أن السمّ المدسوس في الأحداث قد أثار في المشاهدين الرعب والتوجّس والحذر والشكّ في كل من حولهم، فتصوير السفاح شخصا متديّنا ومواظبا على الصلاة في المسجد ومحبوبا من الجيران، ويخدم كبار السن منهم، يجعلك تشكّ في أي شخص حولك، وعلى أرض الواقع يقوم بهذه التصرّفات. وشخصية السفّاح بهذه المواصفات، وإن كانت تدعونا إلى الحذر والتعامل بروية مع الغرباء، إلا أنها قد حوّلتنا إلى أشخاص متوجّسين، حتى إن المشاهدين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي لم يتوقّفوا عن إظهار خوفهم وريبتهم من جار ودود، أو إمام مسجد شابّ أو حارس بناية شهم وخدوم.