السخرية مقاومة صامتة في تونس

25 سبتمبر 2023

(ماجد زليلة)

+ الخط -

لاستكمال البناء القاعدي، كأحد شروط الديمقراطية المباشرة التي يبشر بها النظام  في تونس، يمضي الرئيس قيس سعيّد في إعادة هندسة النظام الإداري والسياسي للبلاد، وهو الذي تعود جذوره إلى ما قبل الدولة الوطنية بكثير، فهناك من يُرجع هذا التراث المفرط في مركزيته وجهويته إلى الإمبراطورية الرومانية. تشهد منشآت عديدة، عسكرية ومدنية ووثائق تاريخية قديمة، على تغلغل سلطة الدولة في التراب التونسي (ما سيُعرف لاحقاً بتونس ضمن حدودها الحالية تقريباً)، وتباينه إلى جملة من الوحدات الجغرافية المتمايزة نسبياً.
ها هو الرئيس يغالب الريح، ويسرع في تنفيذ مشروعه بأدقّ تفاصيله، بعد أن اطمأن إلى أن لا أحد يعترض على أمره ولا رادّ لقضائه. كان الرئيس واضحاً منذ أول تصريح مطوّل أدلى به إلى الصحافة التونسية قبيل انتخابه، حين شدّد، من دون مواربة، على أنه سيفكّك المنجز الديمقراطي حجراً حجراً، ويعيد بناء تونس على الوجه الذي اختاره هو من دون أن يحتاج شركاء.
أصدر قبل أيام، بجرّة قلم، قانوناً يقسّم البلاد إلى خمسة أقاليم، وهو تقسيم قائم بالعرض، حتى يظلّ لكل إقليم منفذ بحري لتفادي ثنائية الجهات: داخلية وساحلية، وهي ثنائية تتكثف دلالتها حين تخفي ثنائيات أخرى: جهات محظوظة وأخرى محرومة، جهات نامية وأخرى فقيرة. تؤكد ذلك وقائع وإحصائيات عديدة، على غرار غياب أي مستشفى جامعي في الجهات الداخلية، مؤسّسات جامعية كبرى، إلخ، فالسمة البارزة للتقسيم الإداري والسياسي للبلاد كان قائماً على تلك الثنائية، إلى جانب المركزية المفرطة واستحواذ العاصمة على جميع المرافق، فضلاً عن القرار السياسي والمؤسّسات السياسة الكبرى في البلاد: رئاسة الحكومة، الوزارات، البرلمان، إلخ. ولكننا لا نجد في الجريدة الرسمية تفسيراً لفلسفة هذا التقسيم، ما جعل المشروع كله عرضة للتهكّم.

لا بواكي لتجربة الانتقال الديمقراطي سوى القليل ممن لم ينخرطوا بعد في حفل هدم الماضي والمستقبل معاً

حين أصدر رئيس الجمهورية يوم الجمعة الماضي ذاك القانون، وهو أمر رئاسي، استقبل الجميع الأمر وكأنه "نكتة عمومية" كبرى. وظلت مواقع التواصل الاجتماعي تتندّر، ولم ترَ فيه إلا إجراءً إدارياً غريباً، لن يغيّر الواقع. وبدت لعبة التهكّم العمومي الكبير تعيد رسم الهويات الفردية والجماعية، وهي "على الورق تماماً"، فلن تغيّر من هوية الناس الذين يقطنون هذا الإقليم أو ذاك، ولن تشهد أي تحسّن في معاشهم بمجرّد أنهم انتموا إلى ذلك الإقليم. يقول أحدهم في تدوينة متندّراً، إن عليه أن يتعلم السباحة، وهو الذي  يقطن مدينة داخلية بعيدة عن البحر ما يناهز 200 كلم أو أكثر، ومع ذلك أصبح "ساحلياً"، بعد أن  ضُمّت مدينته بمقتضى هذا التقسيم إلى إقليم شاطئي. ويردّ عليه مواطن آخر بأنه سيفاخر غيره من أبناء الأقاليم الأخرى  بالتمر الباذخ الذي يُنتج في إقليمه، رغم أنه يقطُن مدينة جبلية، ولم يرَ في بره نخلة واحدة، ومع ذلك ها قد غدا إقليمه أكبر مُنتج للتمور، وذلك كله بفضل "العناية الورقية" التي مزّقت تونس إلى تلك الأقاليم.
ثمّة مبرّرات عديدة لكل موجات السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، لعل أبرزها غياب الجدل العمومي الذي يجعل مختلف الأطروحات أمام الرأي العام وهي تتنافس وتتصارع من أجل أن تقدم حجج صوابها، وحتى يبيّن المختلفون معها نقاط ضعفها، فهذا الجدل هو ذلك الغربال الكبير الذي يصنعه المواطنون لانتقاء الأفضل. أما الحجّة الثانية، فيعبّر عنها مثل شعبي تونسي، "ما خصّ المشنوق كان ماكلة الحلوى" (وهل يحتاج المشنوق إلى أكل قطعة حلوى؟). أي إن الناس الذين يعتصرهم النقص الفادح في مواد الغذاء وتردّي المرافق والخدمات العامة والغلاء الفاحش في الأسعار لن يحتاجوا إلى الأقاليم، حتى تتحسّن أوضاعهم. لذلك قابلوها باستهزاءٍ كثير، فاللفظ مستعمل في الإدارة الأمنية للبلاد، وهي التي قسّمت إلى أقاليم، فضلاً عن أن الخطاب الأكاديمي في مادة الجغرافيا ذائع الانتشار لدى الجماعات العلمية.
وقبل ذلك بيوم، أصدر الرئيس قيس سعيّد أمراً بإجراء الانتخابات المحلية يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وهو يصادف اليوم الذي سقط فيها أكبر عدد من الضحايا إبان أحداث الثورة التونسية 2010. يستولي الرئيس تدريجياً على التاريخ والماضي، بعد أن ضمن بسط نفوذه على المستقبل، المنظور منه والمتوسط. إنه يبدي قدرات هائلة لم يتوقعها مريدوه قبل خصومه على هدم تجربة العشرية الماضية وكل تراثها، حتى بدت أطلالاً لا تثير رثاء إلا القليل. يشارك الجميع في نشوة التدمير من دون أي تمحيص وتدقيق. يطارد الناس الماضي القريب بكل شخوصه ومفرداته وذكرياته. يتخمّر الجميع تقريباً، كما يحدُث في اللطميات الكبرى لبعض طوائفنا، حين تشتدّ نزعة لعن الماضي وجلد الذات والنقمة على الآخرين، إلى حد الرغبة الجامعة في تدمير الوجود برمّته. 
لا بواكي لتجربة الانتقال الديمقراطي سوى القليل ممن لم ينخرطوا بعد في حفل هدم الماضي والمستقبل معاً.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.