الرقائق الإلكترونية ساحة المواجهة بين أميركا والصين

23 فبراير 2023
+ الخط -

لا تبتكر الصين نمطاً جديداً من التحدّي تجاه الغرب، إذ هي تخطّط لتطوير صناعة الرقائق الإلكترونية على أراضيها بعد قرار الولايات المتحدة توطين صناعة تلك الرقائق، التي هي اليوم أساس التقدّم الصناعي في العالم كله، هذا فضلاً عن سيطرة تايوان التي توترت علاقتها مع الصين منذ بداية عهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، على نحو 90% من صناعة تلك الرقائق التي تدخل في تصنيع كل المنتجات التكنولوجية المدنية والعسكرية، كذلك نتيجة تدخل واشنطن لمنع كبرى شركات إنتاج آلات تجميع تلك الرقائق، وهي شركة هولندية تدعى "إيه إس إم إل"، من بيع الصين تلك المعدات.
والصحيح أن هذا التكتيك الصيني ليس جديداً، بل هو قديم قدم خطط "الإصلاح والانفتاح" التي أطلقتها بكين منذ العام 1978، إذ ظل تقليد المنتجات الصناعية الغربية أحد أهم رافعات الاقتصاد الصيني على مدار العقود الفائتة، بل استعملت الصين في العقود الأخيرة هذه الطريقة لتطوير قدراتها العسكرية عبر تقليد التكنولوجيا العسكرية الغربية، بعد الحصول عليها من طرف ثالث (مثل إسرائيل)، ثم طوّرت صناعة النقل لديها عقب الأزمة المالية العالمية حين تمكّنت من شراء تكنولوجيا تلك الصناعة ونقلها من شركات أوروبية وأميركية تعرّضت لخسائر فادحة نتيجة الأزمة، فباتت اليوم إحدى أهم الدول في صناعة القطارات والسيارات، ودخلت بقوة على صناعة الطائرات.

الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بالتفوّق في تصميم الرقائق الإلكترونية، التي يجري تصنيع معظمها في تايوان

الآن، بعد أن قرّرت بكين الانتقال بالصناعة الصينية من التقليد إلى الابتكار مع بداية عهد الرئيس شي جين بينغ، تجد نفسها في مواجهة هذه الأزمة التي تهدّد خطط نموها الاقتصادي التي ترمي منها إلى بلوغ قمة الاقتصاد العالمي بحلول منتصف القرن الجاري، بالتزامن مع ذكرى مئوية تأسيس جمهورية الصين الشعبية. وهكذا تستعيد الصين الطريقة التي أتقنتها طويلاً في تقليد ما يصعُب عليها ابتكاره، إذ من المعروف أن الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بالتفوّق في تصميم الرقائق الإلكترونية، التي يجري تصنيع معظمها في تايوان، خصوصاً الأجيال المتقدّمة منها التي تدخل في الصناعات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وهي التي ستكون محور النجاح الاقتصادي في المستقبل القريب، ومنه التفوّق السياسي والعسكري بالضرورة.
تتوزّع خطة الصين لتطوير صناعة الرقائق الإلكترونية لديها، لتعويض ما تستورده من تايوان مصنّعاً بتصميم أميركي، ومجمّعاً على آلات هولندية، على ثلاث مراحل: الأولى تستمر حتى عام 2025، هدفها تحقيق الاكتفاء الذاتي من تلك الرقائق، والثانية تمتد حتى عام 2030 وهدفها تحويل الصين إلى دولة رائدة في تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات، أما الثالثة فتصل حتى عام 2035، وتهدف إلى جعل الصين الدولة الأولى عالمياً في هذا النوع من الصناعة التي تضمن تطوير الأجهزة والاختراعات والمنتجات التكنولوجية، ما يجعلها مسألة أمنٍ قوميٍّ لكل واحدة من الدول الكبرى.
تقدّر قيمة هذه الخطة الصينية بنحو تريليون يوان صيني (حوالي 143 مليار دولار أميركي)، بينما رصدت الولايات المتحدة لخطتها الرامية إلى توطين صناعة تلك الرقائق (تصنّع معظمها في تايوان حالياً بعد تصميمها في أميركا) نحو 52 مليار دولار. ويعكس هذا التفاوت بين الرقمين تصميم الصين على التغلب على هذا التهديد الاستراتيجي الذي تواجهها به الولايات المتحدة من خلال حرمانها من أساس تطوير صناعاتها، ما يهدّد قدراتها التصديرية، ويؤثر سلباً على تطورها الاقتصادي، ويهدف إلى منعها من استثمار نموّها في تحقيق مكانة سياسية متقدّمة.

لا يحتاج الصراع بين الولايات المتحدة والصين حرباً عسكرية، رغم التهديد بها وإعداد المسرح لها في غرب المحيط الهادئ

ولكن الولايات المتحدة تعرف أن جسر الهوة المعرفية والتقنية في شأن تلك الرقائق، التي تفصلها عن الصين، ليس بالأمر السهل، ويحتاج وقتاً، وهي، بهذا المعنى، "تشتري الوقت"، فتعطّل بيع الآلات الهولندية التي يجري بواسطتها تجميع الرقائق المتطوّرة متناهية الصغر إلى الصين، حتى تستغرق الصين وقتاً في تصنيع آلات مثلها، وتفرض عقوباتٍ على كل أميركي أو حامل لبطاقة الإقامة الخضراء (غرين كارد) يعمل مع شركات التكنولوجيا الصينية، كي لا تمكّن الصين من الوصول إلى خبرات ومهارات مصمّمي تلك الرقائق ومطوّريها، وتؤخرها عن تطوير إمكاناتها في التصميم والتصنيع، ثم تدفع المصانع التايوانية إلى وقف تصدير الرقائق المتطوّرة إلى البر الصيني، كي لا تتمكّن بكين من معرفة وتقليد آخر ما توصلت إليه تلك الصناعة، حتى لو كان ذلك، كما تقول بكين، يتعارض مع مبادئ التجارة الحرّة المعمول بها من خلال منظمة التجارة العالمية.
لا يحتاج الصراع بين الولايات المتحدة والصين حرباً عسكرية إذن، رغم التهديد بها وإعداد المسرح لها في غرب المحيط الهادئ، بتنسيق أميركي سياسي وعسكري مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان. إذ ما دامت الصين تريد أن تستثمر نموّها الاقتصادي المتسارع لأغراض سياسية، محورها تحويل النظام العالمي من أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة إلى متعدّد الأقطاب، فإن مواجهتها ستكون بتأخير نموها الاقتصادي والتجاري بشكل يعطّل طموحها السياسي، وليس أفضل لتحقيق ذلك من تعطيل تقدّمها الصناعي التكنولوجي الذي بدأت تُحرز التفوق فيه خلال السنوات الأخيرة، كما تبدّى مثلاً في تطوير تقنيات الجيل الخامس من الإنترنت والبنى التحتية المتعلقة به. هكذا ستكون "الرقائق الإلكترونية" ساحة المواجهة خلال السنوات المقبلة، بغرض استهداف تقدّم الصين الاقتصادي وفرص فرض نفوذها السياسي في العالم. أما المواجهة العسكرية فستظل معلّقة، حتى يهدأ غبار هذا الصراع التكنولوجي، وتتّضح من بعده الرؤية.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.