الرئيس المؤمن في حضرة المصحف
سمعت، في أثناء مطالعتي في عام 2000، رواية "وليمة لأعشاب البحر"، عن حملة تكفير شنتها صحيفةٌ مصرية على الكتاب بعد إعادة طبعه. أوقفت المطالعة عندها، وعدتُ لأقرأها من البداية بعين متديّن بحثا عن المشكلة. لم أجد ما يذكر في رواية السوري حيدر حيدر، رغم أني كنت وقتها في تجربة دينية كفيلة بإخضاعي لحساسية عقائدية.
مع الوقت ظهر أن وراء الحملة، كحال أخريات، عقائدُ وسياساتٌ وتجارة. في هذا، قد يصحّ استذكارُ ما فعلوه مع نصر حامد أبو زيد وحُكْم محكمةٍ بردّته وإبانةِ زوجتِه عنه كونه "كافرا"، والمسلمةُ لا يصح زواجُها أمثالَه، وفقَ قوانين الأحوال الشخصية. ليس الموضوع هنا ما قاله أبو زيد وما ناقَضَ ثوابتَ الإسلامات. فارق المفكر المصري الحياة منذ أكثر من عقد، وظلت زوجته معه بحمايةِ بلد غربي، وبقيت كتبُه تستحق القراءة. يظلّ الموضوعُ في الازدواجية بين أنظمةٍ سياسية تدّعي العلمانية، وفي الوقت ذاته، تعملُ محاكمُها بمنهج ديني صريح، وتُصدرُ أحكاما بالردّة وتتحكّم بالعلاقات على أساس الاعتقاد والقناعات. رفضت مصر "العلمانية" تطبيقَ الشريعة التي طالب بها معارضوها الإسلاميون، لكنها انتهجتْ، في أكثر الأحيان، طريقا استوجبته عقيدة الإخوان المسلمين.
الازدواجية مشكلةٌ مخلِّة في بلدانٍ عديدة ذات الغالبية المسلمة. ليست واضحةً دولُ تلك البلدان، ولا هي ديمقراطية كي يقال إن تغييرَ الحكومات بين اليمين واليسار، الليبرالية والاشتراكية، يعكس اختلاف السياسات. الدين الرسمي هناك هو الإسلام. الأحوالُ الشخصية ومواد عديدة في النظام الجنائي إسلامية. هي إشكالية تعاني منها بلدانُ الشرق الأوسط وشمالُ أفريقيا، بل أخرى مثل باكستان والسنغال وماليزيا، منذ سقوط الخلافة العثمانية. ربما يصح تفسيرُ الأمر أزمةَ هوية لدولٍ رُسمت حدودها بإرادة خارجية، وتأسستْ دولُها وفقا لتصورات ومصالحَ المنتصرين في الحروب الكبرى. غير أن هذه الإشكالية، أو لنقل ارتباك الهوية العقائدية في ظل تجاذب الأيديولوجيات المستوردة أو مساعي إنتاج عقائدَ بديلةٍ، تحوّلت إلى عنصر يساعد الأنظمة المستبدة.
رفضت مصر "العلمانية" تطبيقَ الشريعة التي طالب بها معارضوها الإسلاميون، لكنها انتهجتْ، في أكثر الأحيان، طريقا استوجبته عقيدة الإخوان المسلمين
هناك نماذج؛ الرئيس المصري أنور السادات، الذي سمّى نفسَه الرئيسَ المؤمن، اتكأ على الخطاب الديني. مثلا، أرسل متفاخِرا مئاتِ الجهاديين إلى أفغانستان. قبل ذلك لم يكن مهووسا في مواجهة السوفييت أكثر من حاجته إلى إطلاقِ عنان الإسلاميين لمكافحة شيوعيين أزعجوه داخليا. حين انتهى من ذلك، حاول التخلصَ من مئات الأصوليين المعادين بإرسالِهم لقتال السوفييت. الرئيس العراقي صدام حسين وسَم نفسَه بعبد الله المؤمن، ومضى في مشروعه الديني منذ نهايات الحرب مع إيران، فكنّى صواريخَه بالحسين والعباس. هو لم يرد المحافظةَ على شرعيته باعتباره علمانيا، بل بوصفه وريث قادةٍ مسلمين. ثم سمّي ميشيل عفلق حين وفاته "أحمد" لمزج القومية في الإسلاموية. تعمّق التوجه في زمن الحصار الاقتصادي تسعينيات القرن الماضي، باستحضار كل المكبوتِ الديني لدرجة أنْ كتَبَ بدمه وسَط علم بلاده "الله أكبر". الرئيس السوداني جعفر نميري انقلب لحكم السودان بمساعدة الشيوعيين. بعد 15 عاما أعدَم محمود محمد طه بتهمة الارتداد عن الإسلام. .. ذلك مأزق بلدانٍ لم تستطع أن تتجاوز ماضيَها الديني، وأدرك حكّامُها الوضعَ، وفهموا كم كان سلاحُ الدين ناجعا.
هذا نموذجُ نظمٍ قدّمت نفسها علمانية، واستخدمت الإسلام في كل مناسبة داخلية وخارجية للضرورات. وفي نظمِ حالة الطوارئ المستمرّة، الضروراتُ واقعٌ أصيل. وسط هذا، برزتْ تركيا وتونس بين الاستثناءات. الأولى، بسبب كمال أتاتورك والثانية بفعل الحبيب بورقيبة. بعدها، حاولت قوى الإسلام السياسي أن تقوم بتغييراتٍ أيديولوجية في تونس، وأخفقتْ. ومما يخشى الآن أن يعمد الرئيسُ قيس سعيّد إلى فعل ذلك، كي يحافظ على شرعيته الانقلابية. أما في تركيا، يبدو الأمر أصعب. منذ البدء، عمِل الرئيسُ أردوغان على تقويض الأتاتوركية. هنا يُشار، كي لا يُبخس حقه إلى نجاحه في تحجيم العسكر، إلا أن النجاح توازيه مشكلاتٌ ظلَّ الحالمُ باستعادة سلطان العثمانيين يعاني منها وأدّى ببلاده كي تكون في وضْعٍ لا تحسد عليه رغم أهميتها. بصرف النظر عن لعبة التصعيد ثم التنازل الصريح المعتمدة تركياً، وبمعزلٍ عن تحويل النظام من برلماني آمِنٍ لمنع التفرّد إلى رئاسي يخضع لرغبات شخص واحد، امتهن أردوغان الإسلامَ في خطابه. عند الحاجة يحرِّك مشاعرَ المسلمين. مسألة حرق المصحف القرآني هذه الأيام قضيته الموظفَة، ومعه يصفق كثيرون.
قبل المضي في تحليل الحالة، نعود إلى الوراء 34 عاما. إلى آية الله الخميني حين أهدر دم الروائي الهندي البريطاني سلمان رشدي. يقال إن الرجل قبْل وفاته بنحو أربعة أشهر شاهَدَ على شاشة التلفزيون غضَبَ باكستانيين من رواية "آيات شيطانية". بعد يومين، الزعيم الإيراني ذو السابعة والثمانين عاما أفتى بهدر دم كاتب الرواية. لم يُفلح الأتباع والغاضبون في النيْل من رشدي حتى أغسطس/ آب الماضي، حيث نجح شابٌ لبناني أميركي مسحورٍ بخطاب الحرس الثوري في الهجوم على الروائي وإصابته بشدة.
لم يتحمّل الخميني عملا أدبيا، لا يعد بين أفضل ما كتبه سلمان رشدي، فأفتى بقتل إنسانٍ جرمُه الوحيد أنه حوّل بعض قناعاته إلى كلمات
كان للخميني أكثرُ من سبب، يعدّ بينها أنه قد مُسَّ في "آيات شيطانية" ضمنا أو تلميحا. لكن الزعيم الإيراني، في المحصلة، أراد لركيزتِه الأيديولوجية قضيةً بعد أن وضعت الحرب مع العراق أوزارَها، وفقدتْ عقيدتُه كثيرا من زخمها في خريطة الصراعات الإقليمية والدولية. لم تدّع طهران هنا العلمانية. على العكس، تبنّت صراحة نظاما ثيوقراطيا تخلّص ممن لم يرضوا بحكم الدين. لكنها، في المقابل، لم تتردّد أن تبنيَ علاقةَ وثيقة بكوريا الشمالية ويوغسلافيا المعاديتين صراحة الأديان، والمنكرتينِ ربَّ الأديان الإبراهيمية. لم يتحمّل الخميني عملا أدبيا، لا يعد بين أفضل ما كتبه رشدي، فأفتى بقتل إنسانٍ جرمُه الوحيد أنه حوّل بعض قناعاته إلى كلمات. في المقابل، لم تتردّد الجمهورية الإسلامية في بناء علاقةٍ مع أحد أكثر النظم إلحادا في التاريخ، كوريا الشمالية. تنقل مدوّنة النظام أن روح الله الخميني حين كان يشاهد زيارةَ رئيس ذلك الوقت علي خامنئي على التلفزيون زائرا بيونغ يانغ، امتدح جهوده. علما أن قليلين مَن زاروا كوريا المجهولةَ والقامعةَ شعبها كأنه في مسلخة.
هنا يقدم رجب طيب أردوغان شخصَه بالطريقة نفسها. يهاجم صراحةً في اتجاه، ثم يعاكس هجومه باتجاه مناقض. حين أحرق متطرفٌ دنماركي سويدي، يعاني من مشكلات قضائية ونبذ قانوني، المصحفَ القرآني، انتفضت الحكومةُ التركية. تكشف مسرحيةُ الحرق كم كان الفاعل بائسا. وقف وحيدا بدون دعم أحدٍ حارقا كتابا، بيد أنه وعى أن فعلتَه ستثير عالما إسلاميا يغضب سريعا كأنه أقلية، وليس عالما يمثل ثانيَ أكثرِ الأديان في العالم سكّانا أو ثالثَها. على خط الغضب اصطّفت دولٌ ومؤسساتٌ مستنكرة. هذا مفهوم في ظل تسابقٍ على تمثيل الإسلام أكثر، والتملق لجماعات بشرية تُحبّ كتابها المقدس. غيرُ الطبيعي تهويلُ بعضِ الجهات أن استوكهولم الرسميةَ متورّطةٌ، لأنها لم تقمع الفاعل. في هذا الاتهام، تكمن حكاية؛ يُراد أن تكون السلطةُ السويدية مدانةً لأنها رغبةُ أردوغان في ظل ابتزازه الدولة الإسكندنافية لتسلّمه لاجئين أو حاملي جنسية من كُرد تركيا مقابل شرط للموافقة على انضمامها إلى حلف الناتو. هو قبل يوم من حادثة الحرق، جدّدَ رفضَه عضويةَ السويد في الحلف. بعد يومين، أكّد وزير خارجيته أن بلادَه قد توافقُ على انضمام فنلندا فحسب، كي يُمعن في عملية الابتزاز، ودقِّ إسفين بين الجارتين شمال الأوروبيتينِ.
حين نتحدّث عن السويد الراهنة، لا نرى النظامَ المعروف على مدى خمسة عقود بكونه اشتراكياً ديمقراطياً
حين نتحدّث عن السويد الراهنة، لا نرى النظامَ المعروف على مدى خمسة عقود بكونه اشتراكيا ديمقراطيا. نشاهد الآن دولةً تعيش تحوّلا إلى يمين يشقُّ مسارَه إلى سياسات متطرّفة مستفزَّة من الأقليات المهاجرة ومستفزِّة إيّاها. هي وجهُ أزمةٍ أكبر تعاني منها بلدانٌ أوروبية عديدة في ظل العلاقة غير المفهومة بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات التي يعيشون فيها. يوجد خللٌ يعاني منه الطرفان. هناك الإسلاموفوبيا مقابلها ما يمكن أن نسمّيها الحساسية الإسلامية العصية على المواطنة والاندماج. حتى هذه النقطة، يسعى أردوغان إلى الاستفادة منها عبر تدعيم الهوّة الدينية في المجتمعات الأوروبية. برز مصداقه الأوضح في قضية أئمة المساجد النمساوية المرتبطين مباشرة بالنظام في أنقرة عام 2018.
على أي حال، يريد الرئيس التركي الربحَ من الإسلام أو غيره. سيقولون إنها السياسة، وبعضُ القائلين سائرون خلفَه يحقّقون له ما يريد من الدعاية باعتباره رمزا دينيا. ولا أدري إن تذكّروا تحوّلاتِه الكثيرة على مدى السنوات الأخيرة المربكة حلفاءَه قبل خصومه. هو يرى مصلحةَ نظامِه السياسي في هذه المنهجية، هذا حقّه. أما الآخرون، فيصفقون له فقط لأنه يغذّيهم على مائدة واحدة، هي أن يبقى الإسلام من دون مساس، وكأنه دينٌ لأسرة تعيش في صحراء معزولةٍ، أو فكرةٌ تخشى الانقراض، وليس عقيدةَ مئات ملايين يؤمنون بالتوسع والتبليغ والدعوة في كل بقاع الأرض، ويرون إسلامَهم أو إسلاماتِهم نهايةَ التاريخ والحضارة وكلِ شيء. ليس الأمر قضيةَ مشاعرَ خاصةٍ تُخدش كالزجاج، إنما شأن عالمي لا يمكن المطالبةُ بغضّ الطرف عنه.