الذئاب المنفردة .. حرب المصطلحات

11 ابريل 2022

(كارولين سمرجيان)

+ الخط -

"المخرّبون" هو الوصف الذي اعتاد الإعلام الإسرائيلي إطلاقه منذ سنوات طويلة على منفذي عمليات المقاومة في الأراضي المحتلة عام 1948، سواء عملوا في إطار تنظيمات فصائلية أو نفذوا هجماتهم بتخطيط فردي مباشر. لكنّ مصطلح "الذئاب المنفردة" قفز إلى الواجهة الإعلامية مع سلسلة العمليات النوعية أخيرا، في بئر السبع والخضيرة وتل أبيب، وهي عملياتٌ يقف وراءها جميعاً جهد فردي خالص من منفذيها، ولأنها كذلك، وليست هجمات فصائلية خصوصاً كالتي عرفها الصراع في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو 1993، اختار الإعلام العبري تلك التسمية، وراح يردّدها من بعده الإعلام الغربي ومعه بعض الإعلام العربي، فهل ثمّة مشكلة في استعمال العرب هذا المصطلح؟
ليس المصطلح جديداً في الإعلام، وهو من حيث المبدأ مرتبط بالتطرّف والإرهاب. تذكر موسوعة ويكيبيديا أنه شاع عام 1990، حين دعا عنصريان أميركيان الخلايا الفردية والصغيرة إلى العمل بسرّية تامة. ومنذ ذلك التاريخ، ظهرت في الولايات المتحدة هجمات عنصرية ترتكبها هذه المجموعات بصفة منفردة من دون هرم تنظيمي، وكان هدفهم القبض على غير البيض وترويج اغتيالهم. لكن المصطلح بعد ذلك أصبح أكثر التصاقاً بعناصر تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، الذين ينفذون اعتداءاتٍ ضد المدنيين في مدن عديدة في العالم، منها مدن أوروبية. وشاع في الإعلام كتيّب قيل إن تنظيم القاعدة أعدّه، متضمناً الوصايا والنصائح لمنفذي هجمات الذئاب المنفردة، كونهم يقومون بهجماتهم بدون اتصال وإشراف من أحد.

عودة "الذئاب المنفردة" في أوروبا ارتبطت في التقارير الإعلامية الغربية بالتفكير المتطرّف الذي تتبنّاه تنظيماتٌ وأفراد ينسبون أنفسهم إلى الإسلام

وفي أواخر العام الماضي (2021) وقعت هجمات فردية في مدن أوروبية، جرى ربطها بالتطرّف والإرهاب، وعدّت بمثابة "عودة الذئاب المتطرّفة"، بعد سنواتٍ من الهدوء الذي فرضته جائحة كورونا وما رافقها من حظرٍ للتجوّل ومنع للتجمعات الكبيرة. ففي أكتوبر/ تشرين الأول، قّتل خمسة أشخاص في مدينة كونغسبيرغ النرويجية، استعمل فيه الجاني القوس لإطلاق سهام على مدنيين في مبنى ومتجر بقالة. وقالت الشرطة النرويجية يومها إن الجاني اعتنق الإسلام، وبدا صاحب ميول متطرّفة قبل تنفيذ عمليته. بعدها بيومين، توفي النائب البريطاني، ديفيد أميس، نتيجة تعرّضه للطعن بسكين حتى الموت على يد بريطاني مسلم من أصول صومالية، قال لاحقاً في إفادته أمام المحكمة إنه أقدم على فعلته "مدفوعاً بالإحساس بالظلم إزاء موافقة نواب بريطانيين على قصف سورية" مضيفاً: "شعرت بأنني إذا تمكّنت من قتل شخص يتخذ قرارات بقتل مسلمين، فإنّ ذلك سيحول دون إلحاق مزيد من الأذى بأولئك المسلمين". وهذا يعني أنّ عودة "الذئاب المنفردة" في أوروبا ارتبطت في التقارير الإعلامية الغربية بالتفكير المتطرّف الذي تتبنّاه تنظيماتٌ وأفراد ينسبون أنفسهم إلى الإسلام.
أما في شأن الهجمات الفردية الفلسطينية أخيراً، فقد بدأ استعمال مصطلح "الذئاب المنفردة" أول الأمر نتيجة اعتقاد بأنّ منفذي الهجمتين، الأولى والثانية، ينتمون لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في وقتٍ يحملون فيه الجنسية الإسرائيلية، ويقيمون في المناطق المحتلة عام 1948. فالعملية الأولى في بئر السبع نفّذها، في 22 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، محمد أبو القيعان، الذي كان قد سُجن عام 2016 بتهمة ترويج فكر تنظيم الدولة الإسلامية والتخطيط للانضمام له في سورية، قبل أن يخضع لبرنامج "إعادة تأهيل" في السجن الإسرائيلي، ويُطلق سراحه عام 2019. أما هجوم الخضيرة بعدها بأيام؛ 27 مارس/ آذار، فقد قُتل فيه شرطيان إسرائيليان، إلى جانب منفذَي العملية، وقال الإعلام العبري إنّ أحدهما على الأقل أدين سابقاً بدعم "داعش"، فيما قال بيان للتنظيم إنّ اثنين من عناصر ما سماه "تنظيم الدولة الإسلامية في فلسطين" وهما أيمن اغبارية وخالد اغبارية، قد نفذا العملية.

اكتسب المصطلح دلالة جديدة لدى المتفاعلين العرب، ابتعد تماماً عن فكرة "الإرهاب" إلى فكرة البطولة والشجاعة

لكنّ استعمال المصطلح نفسه تواصل لوصف منفذي عمليتي تل أبيب في 29 مارس/ أذار و7 أبريل/ نيسان، ضياء حمارشة ورعد حازم، وهما فلسطينيان من مناطق الضفة الغربية، عبرا الجدار الفاصل لتنفيذ عمليتي إطلاق نار على إسرائيليين في منطقتي بني براك وشارع ديزنغوف بتل أبيب، ولم يُعرف عنهما مناصرة تنظيمي القاعدة أو الدولة الإسلامية، ولا الانتماء لهما. وهذا يعني أنّ الإعلام العبري قرّر تعميم هذه التسمية على الفلسطينيين من منفذي عمليات المقاومة الفردية، أياً كانت انتماءاتهم، عوضاً عن مصطلح "المخرّبين". وهكذا يوحّد الإعلام العبري، ومعه الإعلام الغربي الذي يتبنّى الرواية الإسرائيلية، مرة أخرى، بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال، مصوّراً مساعي الفلسطينيين إلى التحرّر من الاحتلال الإسرائيلي، هجمات إرهابية كالتي تعرّضت لها مدن أميركية وأوروبية سابقاً.
اللافت الآن أنّ بعض الإعلام العربي ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العربية راحوا يستعملون هذا المصطلح لوصف عمليات المقاومة الفردية أخيراً في فلسطين، وبدا أنّ كثيرين من مستخدمي وسائل التواصل العرب يردّدون تسمية "الذئاب المنفردة" بفخر شديد، حتى أنّ بعضهم كتب يذكّر بمحاسن صفات الذئب، مثل أنّه لا يأكل الجيفة ولو جاع، ولا يرجع عن الطريق الذي اختاره ولو سار وحيداً، وهذا يعني أنّ المصطلح نفسه اكتسب دلالة جديدة لدى المتفاعلين العرب، ابتعد تماماً عن فكرة "الإرهاب" إلى فكرة البطولة والشجاعة.
وما دام الأمر كذلك، لا تبدو ثمّة مشكلة في استعمال المصطلح عند مخاطبة الرأي العام العربي، إذ سيكون مفهوماً للمتلقي العربي دلالاته البطولية الجديدة، لكنّ المؤكّد أنّ على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، ومحرّري الإعلام العربي المناصر للقضية الفلسطينية، أن يدركوا الخلط "الأخلاقي" الذي قد ينتج عن استعمال هذه التسمية في وصف المقاومين الفلسطينيين الأفراد، عند وصول خطابهم إلى لغات أخرى، أو رأي عام غير عربي، إذ سيجري تلقائياً، في "حرب المصطلحات" هذه، ربط تلك التسمية بخلفياتها الإعلامية السيئة، المخصّصة منذ سنوات طويلة لعناصر التنظيمات المتطرّفة والمتعاطفين معها.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.