الدين واعتناق الشخص
يُنظر إلى شدّة تعلق شريحةٍ واسعةٍ من الإنجيليين الأميركيين بدونالد ترامب عبادةً للرئيس الأميركي السابق. يوصَف المتطرّفون في حبّه بطائفة ترمب. حمل مؤتمرُ الإنجيليين الانتخابي، في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) بعنوان "الطريق إلى الأغلبية"، دلالاتٍ واضحةً على اعتناق الترامبية في أوساط اليمين المتديّن من البيض غير اللاتينيين. كان ترامب نجمَ المؤتمر، محتفىً به كقدّيس. كما كافأ المُحتفين بخطاب ديني "معا، نحن مقاتلون في حربٍ صليبية صالحةٍ لوقف مؤجّجي الفتن والملحدين والعَولميين والماركسيين…"
بطبيعة الحال، يرفض ناشطو الإنجيليين، مِثل منظّمِ المؤتمر رالف رِيد، الوصفَ "نحن متهَمون بعبادة شخصية الرئيس السابق. لكن الحقيقة … أننا طائفة لشخصية واحدة. هناك واحد نعبُده هو يسوع المسيح". هذا متوقّع. لا يمكن أن يرضى أيٌّ من أتباع الأديانِ الإبراهيمية نعتَهم بعبادة شخص (بشر). من الناحية النظرية، اعتناقُ ترامب إلى هذه الدرجة لا يفسّر عبادة. الحال، من وجهة نظر رِيد وأمثالِه، تمثيلٌ لتوجيهات ربّانية. غير أن ما هو نظري تُكذّبه المواقفُ العملية. هناك تقديسٌ لشخص، اعتناقٌ، رفضٌ لنقدِه، وكراهيةُ أيِّ بديل.
ما يجري هناك رسالةٌ غيرُ مطمئنة عن مستقبل بلادٍ تُعدّ علمانيتُها، المتصالحةُ مع الدين، أساسَ تنوّعِها وديمقراطيتِها. هذا نموذجٌ لما هو أبعد مِن أميركا والمسيحية الإنجيلية، ويستدعي توقّفاً ما للفهم وللتساؤل. لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة، منذ حرب الاستقلال، تمسّكاً دينياً بتقديس الدفاعِ عن حاكم بقدر الآن. إذ تراجعت كثيراً نزعةُ تقديس الأشخاص غربياً في القرنين الأخيرين. بابوا الفاتيكان الحالي والسابق ومَن قبلهما تعرّضوا لهجماتٍ مسّتْ جوهرَ قداستِهم. الخلاصُ الغربي مِن تقديسِ الأشخاص دينيا إلى درجةٍ تراهقُ العبادة جاء بعد قرون من صناعة القدّيسين وطهرانيةِ البابوات وسماويةِ الملوك. وحين يقتحم الولاياتِ المتحدة مثلُ هذا التحوّل، فهو لا يشير إلى أن تلكؤ العلمانية الديمقراطية أو إخفاقِها في الحيلولة دون عبادة الساسة فحسب، بل إلى سؤالٍ بشأن الرابطة بين الدين وعبادةِ الأشخاص، حتى لو كان متعارضاً نظرياً مع أي تقديسٍ يتجاوز حدودَ الموحي ووحيِه والموحى إليه.
نموذج ترامب والإنجيليين المعتنقين إياه حاضرٌ في الراهن الإسلامي
في الإسلام تَحتدّ الحساسيةُ، نظرياً، تجاه تقديسِ الأشخاص إلى مستوى العبادة. أما عمليا، فيستفحل اعتناقُ الشخصيات منذ البدايات، كانوا قادةً سياسيين أو فقهاءَ دين أو أولياء أو غيرَهم من المسمّيات التي يمكن أنْ يكفَّر المرءُ حالَ المساسِ بها. الوضعُ لا يتوقّف، إنما يتمادى. حتى عندما ظهرت دعواتٌ دينية مناوئةٌ اعتناق الفرد انقلبت سريعاً لتقدّس شخوصَها. لم يتغيّر الواقع بانتهاء زمن خلفاء السنة وأئمة الشيعة. نموذج ترامب والإنجيليين المعتنقين إياه حاضرٌ في الراهن الإسلامي. الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، مثالٌ بليغٌ على تصاعد حملةِ الاعتناق المحمومة، وكأن مصيرَ الإسلام، رغم كثرة أتباعه وجغرافيا انتشاره، مختصَرٌ في شخص السلطان من وجهة نظر طيف إسلامي غير صغير.
في الانتخابات والأزمةِ مع السويد وتقلّبِ المواقف بين واشنطن وموسكو يتجلّى الاعتناق. عملت الصحافةُ الغربية على إسقاطِ أردوغان لأنه يدافع عن الإسلام، هذا ما كَرّر قولَه المعتنقون. في الواقع، الصحفُ نفسُها ماضيةٌ في مهاجمة الرئيس الروسي بوتين، ولم تتوان عن ترامب، وسخرت كثيراً من الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، وانتقدت بشدة كسْرَ شي جي بينغ قواعدَ قيادة الصين، وتتسلّى يومياً بالحطّ من قدر بوريس جونسون … انتقاد هؤلاء لا يقلّ عن الرئيس التركي، لكنّ هناك من يقدّس أردوغان ويؤمن أن المساسَ به مساسٌ بالإسلام. إنه الاعتناق. مع بدءِ أزمة السويد ورفضِه عضويتَها في حلف الناتو، قُدم الرجل مدافعاً عن القرآن الكريم في مواجهة حارقي نسخ منه. لكنه حين وافق أخيرا على الانضمام، هلّل أتباعٌ معتنقون، كثيرٌ منهم ليسوا أتراكاً، لحنكته وللمكاسب التي لم يظهر منها أيُّ شيء سوى أنه يحاول ترميمَ خسائرَ ناجمةٍ عن سياساته. وعندما تحالَف مع بوتين نُظِّر له مواجها للإمبريالية، ووقتما يُستشعر منه تغييرُ البوصلة لصالح البيت الأبيض يروَّج خصماً لطاغية الكرملين. التأويلُ يأتي من الاعتناق، ويصبح الشخصُ بوصلةَ المواقف وليس العكس. ما يقوم به هو الحقّ، هذه لغة التقديس.
لِمَ تتضخّم ظاهرةُ تقديس الأشخاص داخل البيئات الدينية بما يتعارض مع ما يفترض أنها ثوابتُ دينيةٌ أساسيةٌ؟
عاصر كثيرون منا واقعا مشابها لهذا في بيئة قريبةٍ لبيئة معتنقي السلطان. كان هناك معتنقو الإمام، مؤسّسِ الجمهورية الإسلامية الإيرانية. نظر مريدو آية الله الخميني إليه بالتقديس نفسه. كان حلماً لهم بلغ مجازا حد العبادة. مَن ينتقد الخميني يُكفْر. انتقلت القداسة إلى أبنائه الدينيين، أمثال علي خامنئي وحسن نصر الله وقاسم سليماني، إلى درجة أن مَن يعيش تحت نفوذ الولي الفقيه قد يسمح له أن يتجرّأ على مقدّساتٍ أخرى أكثرَ مِن توجيه كلامٍ لاذع أو حتى نقدٍ موضوعي لهؤلاء. ولا يُنسى زعيمُ التيار الصدري مقتدى الصدر في العراق. الرجلُ تشير جليا إلى قداسته عبارةُ "واحفظ ولدَه مقتدى"، إذ صارت لدى أتباعه ملازمةً الصلاةً على النبي محمد.
وها هو رئيسُ الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تصل المواقفُ المدافعةُ عنه حتى التقديسِ، ليثبَّت في واجهة المشهد مهشِّما ميزةَ "الديمقراطية" التي يتفاخر بها الإسرائيليون. مَن يقف وراء ذلك؟ جمهور ديني متشدد يصنع هالة لشخص. أصبح هناك صراعٌ حول نتنياهو بين علمانيةٍ تراه خطراً ودينية تعتقده وريثَ حلم إسرائيل. الحال مشابه في باكستان والهند إذ تتنافس الجماهير الاجتماعية والسياسية الدينية على تسويق القداسة لزعامتين، عمران خان وناريندرا مودي.
لماذا هذا كله؟ ماذا يجري بالضبط؟ لِمَ تتضخّم ظاهرةُ تقديس الأشخاص داخل البيئات الدينية بما يتعارض مع ما يفترض أنها ثوابتُ دينيةٌ أساسيةٌ؟ حقيقيٌ القولُ إنّ الأيديولوجيات عموما أرضٌ خصبة لتمجيد الأشخاص. ظلت الناصرية إشكالية لدى كثيرين، إلا أنها تلاشت مع الوقت وتحوّل الناصريون إلى بقايا آثار. كانت الشيوعية أهم نموذج لتقديس، ليس كارل ماركس فقط، بل آخرين، غير أن ذلك ظلّ، أحيانا كثيرة، نسقاً ضمن النظام السياسي. بمعنى أن منظومة الحكم تقمع النقد لشخوصها. بقي ستالين مقدّساً للخوف من قبضته الحديدية، وزال بتفكيكها. بينما يتكرّس تقديس أشخاص دينيا، ويخلّد.
لا يُنسى زعيمُ التيار الصدري مقتدى الصدر في العراق. الرجلُ تشير جليا إلى قداسته عبارةُ "واحفظ ولدَه مقتدى"
في الحالة الدينية، غالباً ما يُقدَّس الأشخاصُ اختيارياً، وطالما يخلّد إسباغُ نعتِ الطُهرانية عليهم. ثمة إشكالية ومفارقة في أن الأديان التي قامت على توحيد الخالق وعلى أساس إعلاء رموزٍ محدودة مسماةٍ خصبة لاعتناق الأشخاص. ربما تُفهم الإشكاليةُ، من حيث الظاهر، سياسيةً صرف، إلا أن انعكاساتها وخلفياتها تشير إلى ما هو أبعد من ذلك. لقد أسّست لهذا كلُ المذاهب الدينية، اليهوديةِ والمسيحيةِ والإسلاميةِ، قرونا. هنا يمكن استعارةُ مصطلحِ "سابقة قضائية" المعمولِ به في بلدان مثل بريطانيا. معناه أن القاضي يستطيع أن يُصدر حكما استناداً إلى أن قاضياً سابقاً أصدره. لنُعنونْ ما نحن فيه بـ"السابقة التقديسية". على مدى فترات طويلة أُنتجت مدوناتٌ ثانويةٌ أو تفسيرية أو تفصيلية شقّت طريقَها لتصبح مركزية بها تُفهم المدوّنةُ الأم. أصحاب تلك الأعمال اكتسبوا صفة قداسة، وكرّسوا أيضا شخصيات سياسية واجتماعية وفقهية ولاهوتية... بوصفها شخصياتٍ طهرانية. مثلُ هذه العملية لم تحدثْ في مرحلة واحدة، إنما على مراحل عديدة. تحوّلت السابقة التقديسية إلى سلوك ديني، تأسيسي، غيرِ قابل للانتقاد أو على الأقل للإهمال.
لا ينسجم الهروب من المشكلة بافتراض كونها فعلاً سياسياً مجرّداً مع استحالتِه إلى منهجيةٍ دينية تعطي الأجيالَ الأخرى مزيدا من السوابق المقدّسة كي يضفوا بدورهم طابعَ الطهرانية على رموز من معاصريهم. بذا يستمرّ توالدُ الاعتناق للأشخاص دينياً. وبذا يُخضع النصُ الأصلي نفسُه إلى التأويل على مقاسات مواقف حاكم أو فقيه أو قسّ أو مدوّناتهم. لذلك، إن المقدسين المُختلَقين، وإنْ بدوا أقلّ أهميةً من النصوص نفسها، ينظر إليهم في الجوهر فائقي الأهمية بإخضاع أمهات النصوص للتأويل وّفق انعطافاتهم أو أخطائهم بل جرائمِهم. كأن العلاقةَ الاجتماعية بالدين عاجزةٌ عن أن تتمثّل بعيدا عن التجسيد. ما أن تخرج العلاقة مع الخالق من دائرة الفرد إلى سياق الجماعة، تفتش عن تمثيل لها، عن قائد يكون عنوانها، أو يمثلها نيابة عن الناس، عن وسيط ووسيلة. يتجاوز الوضع حدود التمسّك بالقانون عبر عدم الخروج على الحاكم، كما أسّستْ نصوصٌ تفسيرية، بل بات اعتناقاً وتقديساً وهالةً دينية للحاكم أو الفقيه أو اللاهوتي. وكلما اشتدّ التديّن الجماعي والسياسي ازدادت معه هذه الهالة قوة وصناعةُ الشخص المقدّس براعةً والتبريرُ له عنفا.